هذه الأحداث متخيلة: مشاهد الدراما في موقع المسؤولية

30 مارس 2023
هل يمكن إقناعنا بـ"المتخيل"، نحن الذين اختبرنا الواقع؟ (ألبيرتو بيتزولي/ فرانس برس)
+ الخط -

هناك ما يثير كثيراً من التساؤلات في عدد من المسلسلات الرمضانية التي بثت هذا العام، مثل "العربجي"، و"ابتسم أيها الجنرال"، وربما غيرها ما لم نتمكن من حضوره. المشترك بين هذه الأعمال هو التنبيه في بداية كل حلقة، إذ يشير إلى أن الأحداث متخيّلة، ولا تمت للواقع بصلة، ويمكن أن تحدث في أي مكان، وأن التشابه ليس إلا مصادفة، وغيرها من العبارات التي تقول للمشاهد بوضوح إن ما يراه من محض المخيلة وأي إسقاط واقعي يتحمل مسؤوليته هو فقط.

اللافت في هذه الإشارات الواضحة أنها تحمل نوعاً من المفارقة. بالطبع ما نراه ليس حقيقياً. نحن أمام مسلسل، عمل درامي، ولسنا أمام وثيقة بصريّة. لكن الإصرار على هذه الإشارة قبل كل حلقة هو اللافت. وكأنه محاولة لوضع حاجز بين رغبتنا بالتماهي مع الشخصيات أو قياسها في الواقع، والعمل الفنّي نفسه. وكأنها عتبة تؤكد استقلال العمل الفنّي، وابتعاده عن الواقع الذي لا يمكن تصويره على الشاشة، أو على الأقل، منعاً لوقوع أي جدل أو لغط.

هذا التحذير قد يلعب دوراً معاكساً، بل قد يدفعنا إلى محاولة الإسقاط على الواقع بصورة أكبر، وتقصي العلاقة بين المتخيّل والواقعي، لنجد أنفسنا أمام ما يشبه الأحجية التي نعلم بدقة نهايتها، إذ لن يعترف أو يشير صناع أي عمل إلى أي من المرجعيات الواقعيّة، وهنا يأتي دور هذا التنبيه كمهرب من نوع ما، أو على الأقل، هو بمثابة دعوة لجعل القراءة أكثر انفتاحاً بصورة ما، ما يؤدي إلى إمكانية توليد حكايات لانهائيّة من ما نراه، كل واحدة منها تتبنّى نسخةً مختلفة من "الواقع" الذي يختلف بين مشاهد وآخر، فكل متابع يعكس تجربته الشخصية والعامة على ما يشاهده.

هناك أيضاً ما يحرك المخيّلة في هذا التحذير، وأحياناً النزق، ويطرح تساؤلاً مشروعاً: لم التأكيد على أن ما نراه متخيّل؟ هناك نوع من الإغاظة التي يحركها هذا التنبيه، إذ من المستحيل أن نشاهد أي عمل فنيّ من دون أن نقيسه بالواقع بداية، أو يمكن أن نقيسه على غيره من الأعمال الفنيّة. والأهم، التأكيد على أنه من "الخيال" لن يعني غياب الإسقاطات، بل العكس تماماً، يفتح الباب أمام المقارنة بكافة الأعمال المتخيّلة الأخرى، ما يثير المزيد من التساؤلات حول الحكاية وأسلوب الأداء والنوعيّة، ما يعني، بصورة ما، أن الإسقاط على الواقع قد يقلل من مقدار الانتقادات التي يمكن أن توجه لأي عمل يدّعي أنه من وحي الخيال.

سينما ودراما
التحديثات الحية

نعلم أن هناك اعتبارات قانونية ترتبط بهذا التنبيه، إلى جانب اعتبارات تتعلق بالرغبة باللعب والتخييل. لكن تكرار هذا التنبيه في عدة مسلسلات يدفعنا إلى التساؤل حول الواقع نفسه: هل هناك عجز عن احتوائه؟ أم الأمر محكوم بالكثير من الاعتبارات الجمالية والسياسيّة؟ كل هذه الأسئلة تبقى من دون أجوبة. مع ذلك، نحن أمام سباق مع الذات. كل محاولة لإيجاد "الواقع" الذي اقتُبست منه الحكاية، يعود ليصدم بجدار "التنبيه". وهنا ربما نوع من اللعب. صحيح أنه مهرب من الكثير من الأسئلة، لكنه في ذات الوقت يعري ما نشاهده من السياق، ويتركه أمام تحدّ: هل يمكن إقناعنا بـ"المتخيل"، نحن الذين اختبرنا الواقع؟ هل يمكن إتقان الصنعة إلى حدّ يجعلنا ننسى أن ما نراه متخيّل ونصدق "واقعيته"؟

الإجابة عن السؤال السابق نعم. التماهي هو أحد قواعد الفن، أي قدرته على خلق مشاعر واقعيّة لدينا، رغم أن ما نراه ليس واقعيّاً. وهنا يكمن التحدي الذي ما زال أمامنا حتى نهاية الشهر للإجابة عنه. والأهم، هو تحد خطر، خصوصاً أن ذاكرة المشاهدة قصيرة، إما يتحول ما نراه إلى جزء من "المتخيّل الجمعي"، أو يتلاشى في خضم عشرات المسلسلات التي تبثّ كلّ عام. ناهيك عن أننا أمام منافسة "الواقع" نفسه وما ينتج عنه من أخبار جديّة. ولا نتحدث هنا عن الأخبار الزائفة، بل ما نشاهده يومياً، فهل سيكون لهذا المتخيّل أي أثر في الواقع وجديّته؟

المساهمون