استمع إلى الملخص
- بدأت الشبكات العصبية في الأربعينيات، وأُعيد إحياؤها في الثمانينيات بفضل هوبفيلد وهينتون، مما أسس لتطورات مثل نماذج اللغة الضخمة.
- تُستخدم الشبكات العصبية في مجالات متعددة كفيزياء الجسيمات والطب، مع استمرار النقاش حول التطبيقات المستقبلية والقضايا الأخلاقية.
في السنوات الأخيرة، أصبح الذكاء الاصطناعي جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية لفئة كبيرة من الناس. فأصبح قادراً على إنتاج الصور والفيديوهات والأصوات، والترجمة، والتحاور مع الأشخاص، واقتراح وجهات السفر أو المنتجات المختلفة. وغالباً ما تكون النتائج مذهلة، إذ يصعب تمييز ما إذا كان العمل من إنتاج إنسان أم آلة.
وتعتمد معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحديثة على ما يسمى بـ "الشبكات العصبية الاصطناعية". ويبدو أن لجنة جائزة نوبل للفيزياء هذا العام أرادت الاعتراف بأهمية هذه التقنية في الحياة اليومية من خلال منح الجائزة للعالمين جون هوبفيلد وجيفري هينتون.
واستوحى هذان العالمان أفكارهما من مبادئ الفيزياء لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي القائمة على الشبكات العصبية. هوبفيلد (91 عاماً) أستاذ في جامعة برينستون الأميركية، بينما يُدرّس جيفري هينتون (76 عاماً) في جامعة تورونتو بكندا. وقد عملا في مجال التعلم الآلي منذ ثمانينيات القرن الماضي.
بدأت قصة الشبكات العصبية الاصطناعية في أربعينيات القرن العشرين، وهي مستوحاة من أبحاث علم الأعصاب. في عام 1943، اقترح العلماء أن عمل الخلايا العصبية الطبيعية يشبه البوابات المنطقية في الرياضيات، والتي أصبحت أساس أجهزة الكمبيوتر في ما بعد. وفي عام 1949، اقترح دونالد هيب آلية لشرح قدرة الدماغ على التعلم والتذكر.
وفي الثمانينيات، ساهم هوبفيلد وهينتون بشكل كبير في إحياء مجال الشبكات العصبية والتعلم الآلي. ففي عام 1982، طور هوبفيلد نظاماً قادراً على حفظ الأنماط واسترجاعها حتى من خلال نسخ مشوهة جزئياً أو غير مكتملة. وقد فتح هذا الاكتشاف الباب أمام تطورات جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي، مما أدى إلى التطبيقات المتقدمة التي نراها اليوم في الحياة اليومية.
واستلهم هوبفيلد أفكاره من الأنظمة الفيزيائية التي تكشف عن ظواهر ناشئة. وتساءل عما إذا كان من الممكن تحقيق شيء مماثل باستخدام شبكة عصبية. فاستوحى فكرته من نظام الذرات ذات الدوران (كما لو كانت كل ذرة قطعة مغناطيسية صغيرة) والتي تستقر على أساسها بطريقة تقلل طاقتها الإجمالية. تخيل هوبفيلد شبكة عصبية تأخذ العصبونات فيها قيم 0 أو 1، مثل البكسلات السوداء أو البيضاء في صورة أسود وأبيض. وعندما تُدخَل صورة جديدة في النظام، تتيح معادلة خاصة حساب كيفية ضبط قيمة البكسلات واحدة تلو الأخرى لتقليل مجموع الطاقة. وبهذه الطريقة، حتى إذا كانت الصورة الأولية مشوهة أو غير مكتملة، يمكن استرجاع النمط المخزن في الذاكرة.
لكن هذه الشبكة لم تكن فعالة للغاية، إذ يتضاعف عدد العصبونات اللازمة بسرعة كبيرة مع زيادة عدد الأنماط. في ذلك الوقت، كانت القدرات الحاسوبية محدودة مقارنة بما هو متوفر الآن. واستخدم هوبفيلد شبكة من 30 عصبوناً مترابطة بالكامل (435 اتصالاً)، ما يمثل نحو 500 معلُمة (وحدة قياس معتمدة) من الشبكة العصبية، وكان حينها من المستحيل الوصول إلى 100 عصبون.
ورغم ذلك، أعاد هذا الإنجاز إحياء البحث في مجال الشبكات العصبية الاصطناعية. وكان جيفري هينتون آنذاك في جامعة كارنيغي ميلون في بيتسبرغ، وتساءل عما إذا كانت الآلات قادرة على التعلم مثل البشر، وتفسير البيانات وتصنيفها حسب الفئات. وانطلق الباحث من شبكة هوبفيلد وطور جيلاً جديداً من الهياكل. ففي عام 1985، استخدم بعضاً من معادلات الفيزياء الإحصائية لتطوير "آلة بولتزمان".
وتهتم الفيزياء الإحصائية بالأنظمة المكونة من عدد كبير من العناصر المتطابقة التي يستحيل تتبع جميع حالاتها الفردية، لكن يمكن تحديد خصائصها العامة. فعلى سبيل المثال، عند النظر إلى حالة غاز مكون من ملايين الذرات، حتى لو كانت جميع مواقع وسرعات كل ذرة غير قابلة لتحديدها على حدة، فإن سلوكها الجماعي يحدد درجة حرارة وضغط هذا الغاز.
وتستخدم "آلة بولتزمان" التي طورها جيفري هينتون مجموعتين من العصبونات: الأولى تسمى "العصبونات المرئية" وتستقبل المعلومات، والثانية تسمى "الطبقة المخفية". وفي عام 1986، أظهر هينتون مع زملائه أن تقنية "الانتشار الخلفي" وهي طريقة تستخدم التدرج لضبط معلُمات الشبكة العصبية أثناء التعلم، تمكّن وتسمح للشبكة من إجراء التصنيف، مثل تحديد ما إذا كانت الصورة تمثل صورة قطة أم لا. وبذلك، ساهم هينتون في إبراز دور وأهمية طبقات العصبونات المخفية.
في البداية كانت آلات بولتزمان بطيئة، لكن الابتكار المتمثل في عدم ربط العصبونات في نفس الطبقة بعضها ببعض (آلات بولتزمان المقيدة) ساهم في تفعيل أدائها.
وكان جون هوبفيلد وجيفري هينتون من الرواد في إحياء بحوث الشبكات العصبية الاصطناعية. كما وضعا الأساس الذي واصل عليه جيل جديد من الباحثين، مثل يان لوكون ويوشوا بينجيو (الذين فازوا مع هينتون بجائزة تورينغ عام 2018)، مع ابتكار هياكل أكثر كفاءة وتعدد الاستخدامات. واليوم، تستخدم نماذج اللغة الضخمة التي تعد أساس ChatGPT وBard وغيرها بأكثر من 1000 مليار معلُمة.
بالإضافة إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي جعل الذكاء الاصطناعي شائعاً بين عامة الناس، أصبحت الشبكات العصبية الاصطناعية أداة لا غنى عنها للعديد من الباحثين منذ أكثر من عشر سنوات. ومثال على ذلك، في فيزياء الجسيمات، ساعدت هذه الأدوات في العثور على جسيمات نادرة جداً، مثل بوزون هيغز، وسط مليارات من تصادمات البروتونات عالية الطاقة في مصادم سيرن "المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية". أما في الطب، تُستخدم هذه الطريقة لتحليل الصور للكشف عن الأمراض المختلفة أو الأورام. ومؤخراً، تم استخدام هذه الخوارزميات في البحوث لدراسة وتوقع بنية البروتينات أو تحسين كفاءة الألواح الشمسية.
ويعمل العديد من الباحثين الآن على تطوير مجالات تطبيق التعلم الآلي. إذ لا يزال من غير الواضح أيها سيكون الأكثر قابلية للتطبيق، بينما هناك أيضاً نقاش واسع النطاق حول القضايا الأخلاقية التي تحيط بتطوير واستخدام هذه التكنولوجيا.