نساء غاضبات سينمائياً... ذلك العبوس في وجه الرجل والسلطات والعدالة

08 مارس 2023
فرانسيس ماكدورماند في مشهد من "ثلاث لوحات خارج إيبنغ ميزوري" (Searchlight Pictures)
+ الخط -

أظهرت السنوات العشر الماضية اتساعًا واضحًا في "فجوة الغضب" بين الرجال والنساء، وفقًا لما نشرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، بعد تحليل بيانات صادرة عن تقرير غالوب العالمي للمشاعر، يوضح أن النساء أصبحن أكثر غضبًا من الرجال، بفارق ست نقاط مئوية تحديدًا، بدءًا من العام 2012، وبشكل أوضح بعد انتشار فيروس كورونا.
قد لا تبدو تلك الإحصائيات مثيرة للقلق بالنسبة للبعض، إلا أنها حتمًا تشي بالكثير عن أوضاع المرأة الحالية، شأنها شأن الصور والتعليقات والميمز (Memes) المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتظهر جوديث تقطع رأس هولوفرنيس، وتيموكليا ترمي بمغتصبها في البئر، على غرار لوحات عصري النهضة والباروك المليئين بأعمال نسوية غاضبة مماثلة. 
أما النماذج الأكثر حداثة ودبلوماسية، فيقدمها لنا صناع الدراما والسينما عبر أعمال جدية ونسوية، تتطرق إلى مشكلة انعدام المساواة في عصرنا الحالي، وتبحث في ردود فعل المرأة الناجمة عنها، ومنها Promising Young Women ،Bad Sisters ،I May Destroy You ،The Wonder وغيرها من المسلسلات التلفزيونية والأفلام.
ليست موضوعة "الغضب الأنثوي" بالجديدة على عالم الفنون، إذ يحفل تاريخ الفن بلوحات وأساطير وقصص تعالج تلك الموضوعة من زوايا مختلفة، إلا أن معظمها كان ينظر للغضب الأنثوي بوصفه مسلكًا قبيحًا وشنيعًا، أو يعده دخيلًا على "الطبيعة الأنثوية" ومشوهًا لها، كما في أساطير ميدوسا وميديا وهاربي.
تؤكد الكاتبة النسوية ريبيكا تريستر، على الامتدادات المعاصرة لتلك المقاربات التاريخية غير العادلة في كتابها لعام 2018 Good and Mad: The Revolutionary Power of Women's Anger، إذ تشير إلى أن نساء اليوم غالبًا ما يوصفن بالهستيرية عند التعبير عن غضبهن، مستشهدة باستخدام صور النساء السياسيات وهن يصرخن بهدف محاربتهن إعلاميًا، وإظهارهن بصورة غير جذابة أمام جماهيرهن.
كثيرًا ما ربطت الأعمال الفنية الشائعة الغضب الأنثوي بالجنون وانعدام الصحة النفسية، واستعملته دليلًا على الاضطرابات النفسية العميقة، مثلما صُوّر في فيلمي Pari وGone Girl، أو جعلته مرادفًا للشر والأذى والرغبة في الانتقام، كما في ظاهرة ماليفسنت (Maleficent)، أسوة بشخصية شركة ديزني التي تحمل ذات الاسم، وهي جنية طيبة تتحول إلى حاكمة شريرة، بعد خيانة حبيبها السابق ستيفان.
ترجع تلك النوعية من الأفلام عنف المرأة إلى سوء معاملتها من قبل الرجال، مقللة من مكانتها وقيمة دوافعها الأصلية. "عنفها مؤنث"، بحسب الباحثة في الدراسات السينمائية في جامعة كولومبيا البريطانية، ليزا كولتهارد، التي تصف أفلامًا مثل "كيل بيل" (Kill Bill) بالمحاباة، لأنها تساير المفاهيم النمطية لنقاء الإناث وعاطفيتهن وارتباطاتهن الأسرية، وتعزز تبعيتهن المفترضة للذكور، عبر سلبهن حججهن المقنعة والكامنة وراء العنف.


بعيدًا عن إرثها الطويل والشائك، تقدم الأعمال العالمية المعاصرة النساء العنيفات في ضوء مختلف، مهددة القوالب الجنسية النمطية وهيمنة الذكور المطلقة، ومركزة على الغضب الأنثوي بوصفه حافزًا للتغيير السياسي والاجتماعي، ووسيلة لتمكين المرأة، مانحة إياها حق السخط والتعبير عن القلق المتزايد إزاء وضعها الجندري من ناحية، وإزاء عالم تخنقه أزمات اقتصادية متزايدة ومناخية وشيكة الحدوث، من ناحية أخرى. 
عربيًا، تفرض بعض التجارب الشبابية نفسها على المشهد السينمائي المستقل تحديدًا، لكنها مع ذلك تبقى متأخرة في سعيها إلى اتخاذ خطوات أكثر تجريبية وجرأة من الناحية الفنية لمحاكاة قضايا المرأة الراهنة. 
تستكشف موجة الأفلام والمسلسلات الجديدة الفروق الدقيقة في هذا الغضب ذات الطبيعة الجنسانية، غافرة للمرأة تجهمها العميق. في فيلم "ثلاث لوحات خارج إيبنغ، ميزوري" (Three Billboards Outside Ebbing, Missouri)، الصادر عام 2017، تقدم شخصية ميلدريد نموذجًا واضحًا عن ذلك العبوس الأزلي في وجه الدين والسلطات والعدالة والرجل... والحظ العاثر أيضًا. تحرق ميلدريد قسم الشرطة، مستغنية عن جهود السلطات المحلية، وتقود شاحنتها باتزان، وفي رأسها تدور فكرة عن قتل رجل مغتصب، انتقامًا لابنتها ولآلاف من ضحايا الاعتداء الجنسي.

في ذات السياق، يقدم مسلسل Fleabag (فليباغ) صورة واضحة عن غضب النساء اليافعات، ترويه Phoebe Waller-Bridge التي صرحت لمجلة فوغ بأن "السخط النسائي حديث العهد"، كان محركها الرئيسي لكتابة المسلسل. وفق نهج ناقد وفذ مشابه لشخصيات تيار Angry young men البريطاني، تتعامل فليباغ مع الحياة العصرية للشباب بأسلوب جاف وتكشيرة تعكر صفو من حولها، لكنها مع ذلك تواصل المضي قدمًا، محاولة الهروب من مأساة العائلة وتبعاتها ومن ذلك الغضب المزمن مجهول السبب الذي لا يفارقها أيضًا.
يعبر غضب النساء عن نفسه بطرق أكثر تطرفًا أحيانًا، متخذًا أساليب عدائية ووحشية قد لا تروق لكثيرين، لكنها تتناسب في حدتها مع حدة الموقف، وبعضها يصف نفسه مناصرًا لـ "النسوية السمية"، من دون مواربة أو خجل. تعترف هذه الأعمال، إن لم تكن تبتدع، موقعًا جديدًا للنساء وسط المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي المعتاد، وتصور قوة المرأة كما لم نشهدها من قبل، إذ تحثنا على "نسيان ما كنا نصدقه عن النساء"، كما تشرح مخرجة فيلم Mona Lisa and the Blood Moon، كي نفسح المجال لصور أخرى بالتشكل في أذهاننا.
يطفح فيلم Mona Lisa بمشاهد العنف الدموي التي تؤديها بطلة الفيلم بتلذذ خالص وموهبة قتالية مطلقة، كانت حكرًا في السابق على المؤدين الرجال ونظرائهم من المستمتعين بمشاهد العنف الذكوري في أفلام الحركة. بدوره، يتكئ مسلسل Yellowjackets المستمر عرضه منذ عام 2021 على نهج مشابه أيضًا، إذ يدحض الشك حول "الوحشية" الأنثوية ويخالف الاتجاهات السينمائية التي جعلت من المرأة الغاضبة استثناء لقاعدة اللاعنف الأنثوي. يختبر Yellowjackets ما يمكن أن تفعله مجموعة من النساء في ظروف قصوى وسط مشهد أبوكاليبتي مستوحى من رواية "سيد الذباب" الشهيرة، وذلك عبر حادث تحطم طائرة يودي بفريق كرة القدم للفتيات إلى قلب الغابة، حيث يبدأ صراعهن الوحشي والعنيف للبقاء على قيد الحياة. أما في مسلسل Bad Sisters المعروض على + Apple TV، فتتآمر الشقيقات على زوج أختهن المسيء، عازمات على قتل الرجل الكاره للنساء بأشنع الطرق الممكنة. 

لا تمجد تلك النماذج العنف في حد ذاته، وإنما تحتفي بقدرة النساء على أن يكن شيئًا آخر، خارج حدود المتوقع والاعتيادي، وبعيدًا كل البعد عن افتتان هوليوود السطحي بالنساء العنيفات من خلال أفلام البطلات الخارقات، أو غبن شقراوات هوليوود وشرهن القائم على أساس التنافس السطحي.
يشير غضب النساء المتزايد، عبر الدراما أو في الواقع، إلى مشكلة تتفاقم دون حلول قريبة، على الرغم من الجهود العالمية الحثيثة لتحسين واقع النساء. لا يقوض الغضب الثوري النسائي الصور النمطية عن المرأة فحسب، بل يمثل مؤشرًا واضحًا على المشكلة، وربما جزءًا من الحل أيضًا.

المساهمون