نادرة أمين... الملحنة منذ الأغنية الأولى

21 يوليو 2024
لحّن لها داود حسني وزكريا أحمد والقصبجي ورياض السنباطي (فيسبوك)
+ الخط -

حين دخل عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، لم يكن سهلاً على جمهور القاهرة أن ينصت إلى صوت نسائي جديد، فالسطوع الباهر لأم كلثوم صعّب الطريق أمام مطربات كبيرات مشتهرات، ثم كانت العقبات أصعب أمام المواهب الشابة الجديدة. الانتباه إلى هذا السياق مهم لفهم القيمة الفنية التي مثّلتها المطربة نادرة أمين في المجتمع القاهري، حين بدأت مسيرتها الفنية بحفل على مسرح رمسيس بشارع عماد الدين عام 1930.

قبل هذا التاريخ، لم يكن لنادرة هم إلا الاستماع الدقيق والإنصات المرهف إلى كبار المطربات، والتقاء أعلام الغناء والتلحين، والإفادة من توجيهات شيوخ الفن. مسيرتها الفنية تكشف عن حرص على الصقل والتدريب والتعلم، من دون الاغترار بكلمات الثناء والمديح التي تنهال عليها كلما غنت بصوتها القوي المطواع المكين.

وقد هيأها تحصيلها لتكون ضمن تلك المجموعة الضيقة من النساء اللائي اشتغلن بالتلحين، كما كانت من قلة نادرة من المطربات المتمرسات بأداء القوالب الكلاسيكية، بعد أن حفظت حصيلة كبيرة من الأدوار والموشحات، ووجهت جهدها وطاقتها إلى القصائد الفصيحة.

ولدت نادرة أمين في حيّ عابدين بقلب القاهرة عام 1906، لأب مصري وأم لبنانية. هاجر الأب إلى البرازيل قبيل ميلاد ابنته بشهرين. وحين أتمت الطفلة عامين، ماتت أمها، ولم يبقَ لها إلا جدتها التي أخذتها إلى بيروت لرعايتها وتربيتها. مبكراً، أحبت نادرة الغناء، فكانت تحفظ كل ما يصل إلى أذنها من التسجيلات القديمة. لم تكن جدتها حفيّة بهوايتها، وحاولت بكل السبل ثنيَها عن طريق الفن، لكنها استسلمت أمام إصرار حفيدتها، وتأكدت من قدراتها الصوتية، فانقلب الرفض إلى تشجيع، وحرص على التعليم، فأوصلتها إلى أستاذ العود يوسف عمراني ليعلمها أصول العزف، ثم دفعت بها إلى الملحن الحلبي عمر البطش لتأخذ عنه الموشحات والإيقاعات. هذا مستوى من التأهيل يندر أن يتوافر لمطربة عربية.

تبدو نادرة أمين في غاية الحذر والتمهل قبل الغناء العلني. في عام 1927، جاءت إلى القاهرة لأول مرة منذ أن تركتها طفلة صغيرة. لم تُبدِ أي اهتمام بتقديم عرض غنائي، تفرغت للاستماع إلى مشاهير المغنين، والتقاء كبار الموسيقيين، وتعرفت في هذا التوقيت إلى كامل الخلعي وإبراهيم القباني، وإبراهيم شفيق، وأنصتت إلى توجيهاتهم ونصائحهم. عادت إلى بيروت، ثم إلى القاهرة عام 1929، لكنها آثرت أن تجتاز فترة تدريبية مع الملحن داود حسني، الذي اشتهر دوماً برعاية المواهب.

أعدّها الرجل لمواجهة الجمهور، وحفظت على يديه بعض أدواره، ثم جاءت لحظة الظهور العام، والوقوف على المسرح عام 1930. في حفلها الأول، غنت نادرة أمين من ألحان داود، دور "ألحاظ حبيبي يا ناس فؤادي راح لهم"، كذلك غنت بعض قصائد الشيخ أبو العلا محمد. نجح الحفل، وتردّدت أصداؤه في الأوساط الفنية، ولم يطل الوقت حتى جاءت شركات الأسطوانات بعروضها. وبالفعل، بدأت خطواتها مع التسجيلات بعدد من ألحان داود حسني، وأحمد شريف، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي.

مع دخول عام 1932، اختيرت نادرة أمين لتمثيل دور البطولة في أول فيلم غنائي عربي "أنشودة الفؤاد" مع جورج أبيض، وعبد الرحمن رشدي، وإخراج الإيطالي ماريو فولبي. كتب حوار الفيلم وأغانيه الشاعر خليل مطران، ووضع ألحانه الشيخ زكريا أحمد الذي اشترك بالغناء والتمثيل، كذلك غنت نادرة أمين من تلحينها قصيدة قيس بن الملوح "يقولون ليلى في العراق مريضة يا ليتني كنت الطبيب المداويا". ثم توالت بطولة نادرة السينمائية: فيلم "شبح الماضي" ثم فيلم "أنشودة الراديو"، وغنت أيضاً في فيلم "بنت ذوات" بطريقة الدوبلاج.

بدءاً من عام 1935، خصصت الإذاعة المصرية لنادرة أمين فترة أسبوعية، تؤدي فيها وصلتين من غنائها وعزفها، بألحانها أو بألحان أهم الموسيقيين. اتسمت وصلات نادرة بطابع شرقي، وباهتمام كبير بالليالي والمواويل، مع قدرة واضحة على "ترجمة" الجمل المرتجلة، واتسم أداؤها للأدوار والموشحات بالأمانة والانضباط.

في الغناء، يتقاسم الرجال والنساء المساحة الفنية مناصفة، وليس الأمر كذلك في التلحين، الذي كان دائماً فناً رجالياً، لا تقترب منه النساء إلا في حالات قليلة. كانت نادرة أمين من أبرز تلك الحالات، ومن أبرز النساء اللائي اشتغلن بالتلحين. وخصّص المؤرخ الموسيقي السوري مروان منصور في كتابه "مطربات ملحنات" فصلاً كاملاً لنادرة أمين، باعتبارها ضلعاً في رباعي التلحين النسائي العربي مع كل من فتحية أحمد، وملك، ولور دكاش.

سرد مروان عدداً من الأغنيات التي قدمتها أمين بعد أن لحنتها بنفسها، ومنها على سبيل التمثيل: "حُكم الإله والعدل يقول"، و"غنّي يا دنيا وقُول يا زمان"، و"يا مصري قُوم واحمي الوادي وقلوبنا معاك"، و"يا للي جمعت الدنيا في إيدَك"، و"يا جيش بلادنا"، و"بيقولوا العمر يومين"، وكلها من كلمات وفاء عزيز. يضاف إليها "يا غزالي كيف عني أبعدوك"، و"حبايبي فين دلوني" وكلاهما لفخري البارودي و"يا وردة ما لِك دبلانة"، لإدوارد سليمان، وقصيدة "يا رب هيئ لنا من أمرنا رشدا" لعمر بن الفارض، و"غنّ معايا يا موج النيل"، من كلمات عبد العزيز سلّام. كذلك لحنت لرجاء عبده طقطوقة "روحي تناديني".

كان الأديب المصري عباس محمود العقاد من المعجبين بصوت نادرة وغنائها، وقد عبّر عن إعجابه عملياً، فأهدى المطربة الملحنة عدداً من قصائده، وقد غنتها نادرة أمين، سواء بألحانها أو ألحان الموسيقيين الكبار الذين تعاونوا معها، وفي مقدمتهم رياض السنباطي وفريد غصن، ومنها: "أعطني العود أغني"، و"فضض الماء يا قمر"، و"في الهوى قلبي زورق يجري"، و"يا حبيبي أنت ري ليس في النيل نظيره"، و"مولدي يوم شقائي"، و"يا ساعة الصفو غبت عني".

ظلت نادرة أمين مشتغلة في الغناء حتى أوائل عقد الستينيات من القرن الماضي، أي إن رحلتها الفنية تجاوزت ثلاثين عاماً، ويكشف مسرد تسجيلاتها اهتمامها البالغ بالقوالب الكلاسيكية، ولا سيما الأدوار والموشحات، والليالي والتقاسيم. لكن الجزء الأكبر من غنائها وألحانها كان متماهياً مع موجة الحداثة الغنائية التي باتت قدراً لا فكاك منه. فجودة تسجيلات بصوت نادرة أمين لأدوار من ألحان محمد عثمان أو داود حسني، ووجود تسجيلات بصوتها لموشحات من ألحان عمر البطش أو أبو خليل القباني أو كامل الخلعي، كلها تؤكد أن كثيراً من المطربين المتمرسين بالغناء التراثي ذهبوا إلى المنولوجات الوجدانية الحداثية بوعي كامل لطبيعة المرحلة، والحاجة الفنية الملحة التي فرضتها السينما والإذاعة والتطور المجتمعي، ولم يكن الأمر عجزاً أو قصوراً عن أداء ألوان "الطرب الثقيل"، كما يرى كثير من هواة اختزال الأسباب المعقدة في مظهر واحد بسيط.

كانت نادرة أمين صوتاً مقنعاً، وكان أداؤها يملأ رأس الملحنين، فتعامل كثير من الموسيقيين المهمين، وقدموا إليها الألحان من دون تردد. يكفي من يؤرخ لنادرة اليوم أن يجد في قائمة ملحنيها: داود حسني، وزكريا أحمد، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي، وفريد غصن، وأحمد صبري النجريدي، وأحمد شريف، وأحمد عبد القادر، ومحمود الشريف، وحتى محمد عبد الوهاب، إذ قدم لها لحن قصيدة "يا حبيبي أقبل الليل"، التي غنتها في فيلم "بنت ذوات" بطريقة الدوبلاج الصوتي.

مع دخول عقد الستينيات، بدأت نادرة أمين بالانسحاب التدريجي من المشهد الغنائي. يشير مروان منصور إلى أنها أدت فريضة الحج عدة مرات، ودخلت في حالة صوفية، ساعدتها على الابتعاد عن الأضواء لنحو 30 عاماً. في 24 يوليو/ تموز عام 1990، رحلت نادرة أمين وشُيعت في جنازة صغيرة. لكن محبي صوتها سيتذكرون دوماً المطربة الملحنة العازفة التي أبت أن تتصدر قبل أن تتأهل، وسيرددون مع الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي قصيدته التي مدح بها هذه المطربة، قائلاً: "ما أنت إلا نادرة.. في كل فنٍ ساحرة.. معجزة بالغة.. من معجزات القاهرة".

اشتركت نادرة أمين في الحفل الكبير الذي أقيم بمناسبة عقد القران الملكي عام 1938، مع كوكبة من كبار الشعراء والفنانين. بدأ الحفل بتلاوة قرآنية للقارئ الشيخ محمد رفعت، ثم تحدّث عدد من الشعراء والأدباء وأهل الفكر، في مقدمتهم الأمير عمر طوسون وحسين هيكل وطه حسين وأنطون الجميل وعلي الجارم وبديع خيري وأبو بثينة.

وشارك في إحياء الحفل عدد من مشاهير أهل الفن، أمثال مدحت عاصم ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم ونجاة علي وحياة محمد ونجيب الريحاني وعلي الكسار وأحمد عبد القادر وسيد مصطفى وسيد درويش الطنطاوي. أشرف على ترتيب الحفل وإخراجه فاضل الشوا، أما التقديم فكان لمحمد فتحي.

المساهمون