استمع إلى الملخص
- عرفات جسّد صورة الثائر الساعي للسلام دون التخلي عن المقاومة، متجاوزًا الجغرافيا والتباينات الطبقية، ليصبح رمزًا للثورة الفلسطينية بفضل كوفيته ولغته البسيطة.
- بعد اتفاقية أوسلو، واجه عرفات تحديات جديدة حيث تلاشت ثنائية السلام والمقاومة، وظل رمزًا لشعبه حتى حوصر في المقاطعة، تاركًا إرثًا معقدًا.
في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1974، ألقى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات خطابه الأكثر شهرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكانت تلك سابقة، والمرة الأولى التي يُلقي فيها رئيس كيان أقل من دولة (منظمة التحرير الفلسطينية) كلمة أمام الجمعية العامة.
قدّمه آنذاك وزير الخارجية الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان رئيس تلك الدورة، وكان من اللافت أن يحتفظ عرفات بجَعبة مسدسه على خصره، بعد تعذّر إدخال مسدسه حتى من دون رصاص إلى قاعة المؤسسة الدولية. ومما قيل في حينه، إن مفاوضات صعبة خاضها الرجل لإنتاج صورته وشعبه في أول مشاركة له في منتدى دولي، فقد أراد الدخول بمسدسه، ولمّا تعذر الأمر فاوضهم على الاحتفاظ بجعبته.
تلك المفاوضات دلالياً أنتجت بالضبط صورة الفلسطيني الجديد، فهو يريد بـ"القوة" لكنه قد يفاوض للحصول على أقل مما كان يريد، أي إنه يتحرك بين الحد الأقصى والممكن، لكن من دون أن يخضع.
لم يخدع عرفات أحداً منذ ذلك الوقت حتى مماته، لا شعبه ولا العالم، فقد قدّم نفسه إلى العالم وفي إحدى يديه غصن الزيتون، في دلالة على نشدان السلام، وفي الأخرى "بندقية الثائر"، فما لا يحققه السعي السلمي، ستتكفّل به البندقية.
هذه الثنائية دفعت إلى الوراء الرجل العادي أحادي الجانب، لصالح الثائر الذي لا يبعد عينيه عن أي طريق محتمل للتفاوض، لكنها أبقت على أبو عمّار، أي النظام الأبوي لكن بعد تغيير محتواه لا طبيعته.
كانت النقلة في الصورة كبيرة بين "الزلمة" والثائر؛ فالأول ينتمي إلى حقبة كبار مُلّاك الأراضي الذين تحالفوا مع أفندية العائلات الكبرى، بينما لا ينتمي الثائر إلى فئة أو طبقة، بل إلى قضية.
هذا ما تمثّل في عرفات نفسه، إذ لا يمكنك رده إلى هذه المنطقة الفلسطينية أو تلك، فلا هو غزّي ولا قدسي، أي إنه كان عابراً للجغرافيا الفلسطينية المقسّمة بين ضفة غربية وقطاع غزة ومدن محتلة عام 1948، وللتباينات الطبقية بين فلاحين وأبناء مدن وأفندية.
أضف إلى ذلك كوفيته التي أصبحت رمزاً مُذ ذاك، ولغته التي لا تقيم وزناً لقواعد اللغة العربية، وجعبة مسدسه على خصره، لتفارق صورته سابقتها، وتقطع معها، وإنْ ظل أسير تناقضاتها، ذلك أن تغيّر الصورة كان نتاج الثورة لا التطور الاجتماعي الطبيعي، في محيط غير رفيق به وبشعبه، فكانت الصورة على سطوعها وقوتها تمور بالصراعات الداخلية، بالتناقضات، بحثاً عن نهاية تشكلها المستحيل آنذاك.
ثمة فلسطيني حائر هنا، لا ينتمي إلى طبقة، لا ينتمي إلى فكرة قارة ونهائية، فارق الشروال، لكنه لم يشاهد أبداً ببدلة رسمية وربطة عنق. يقاتل ويفاوض من تحت الطاولة في الوقت نفسه، لا يعترف بالقواعد العربية، ومنها السيادة، كما لا يعترف بقواعد اللغة، ويسعى في الوقت نفسه إلى أن يعترف به الآخرون.
بلحيته، و"عاديته"، وتباسطه مع رجالاته وجنوده، وكوفيته السوداء المرقطة، ومعجمه اللغوي المحدود، كان يمثّل شعبه وينتج صورته المعاصرة، الراهنة؛ فهو مؤذٍ لكنه ضعيف، حالم بإفراط لكنه واقعي وبراغماتي، إنه خليط متناقضات تبحث عن لحظة انفجارها.
جاءت تلك اللحظة الأليمة في أعقاب عودته إلى فلسطين بعد أوسلو. لقد تنزّل حلمه إلى الواقع، بل ارتطم به، ولم تعد ثمة ثنائية يتلاعب بها ويتحرك بين حديها الأقصيين في لعبة توازن معقدة ليبقى، بل مسار وحيد مليء بالإكراهات المهينة لرجل وشعب لم تتح لهما أبداً خيارات كريمة في طريقهما إلى بلاد كلما ظنوا أنهم اقتربوا منها نأت.
كان الرجل يشبه شعبه، وكان يعرف أنه شعب متطلب، مثله، وأن التناقضات التي انطوى عليها شخصه ونضاله اقتربت من الانفجار. وقد انفجرت دفعة واحدة في وجه العالم الذي تركه وحيداً، ودبابات شارون تحاصره في مبنى المقاطعة، ورجاله ينقسمون على أنفسهم للفتك بإرثه ووراثته.
كان عرفات موسى الفلسطينيين الحائر الذي يعرف طريق الخروج من مصر، لكنه لا يعرف طريق الوصول إلى فلسطين، ولا يمكنك إلا أن تحبه رغم ذلك بل بسببه ربما.
جاء بعده رجل حسم ثنائية غصن الزيتون وبندقية الثائر، ومزّق الصورة التي أنتجها عرفات بأن علّقها على الجدار ببساطة، وهو يرتدي بدلات أنيقة ولا يعترف بأي جدوى للبندقية وشقيقاتها.