مساء 4 يونيو/حزيران 2022، اختُتمت الدورة الـ22 لـ"المهرجان الدولي للسينما الأفريقية بخريبكة (فيكاك)"، بعد أسبوع حافل بالعروض والأنشطة المتعلّقة بالسينما في القارة السمراء، ورهاناتها المعقّدة. دورةٌ منعقدةٌ في ظروفٍ صعبة، ورياح غير مؤاتية، بثّت تخوّفاً كبيراً في أصدقاء أعرق مهرجان سينمائي يُنظّم في المغرب، بعد توقّفه 3 أعوام بسبب كورونا، الذي سَبّب وفاة نور الدين الصايل، الأب الروحي للمهرجان، وأهمّ مؤسّسيه عام 1977، بمبادرة من "الجامعة الوطنية للأندية السينمائية". مهرجان احتضنته خريبكة، التي كانت آنذاك مدينةً منجميةً صغيرةً (أهمّ منطقة إنتاج للفوسفات عالمياً)، بروحها العمّالية، والكرم المأثور لأهلها.
مهرجان كان ولا يزال أحد أضلاع المثلّث الحصين للسينما الأفريقية، مع "أيام قرطاج السينمائية" (تونس) شرقاً، الأعرق في القارة (تأسّس عام 1966)، والـ"فيسباكو" جنوباً، التظاهرة السينمائية الأفريقية الأهمّ بتأثيرها، والمُنظَمّة، منذ عام 1969 (مرة كل عامين)، في واغادوغو، في بوركينا فاسو، التي حلّت سينماها هذا العام ضيفةً مُكرّمةً في الـ"فيكاك".
تغييرات وارتباكات
شهدت مؤسّسة المهرجان تغييرات عدّة، أبرزها تعيين رجل السياسة اليساري الحبيب المالكي رئيساً، والرجل النشيط في تسيير المهرجان، وقيدوم "النادي السينمائي لخريبكة"، عز الدين كريران مديراً، ما أضفى على أجواء الإعداد طابعاً انتقالياً، انعكس في تعيين المخرج المغربي سعد الشرايبي رئيساً للجنة تحكيم الأفلام الروائية، قبل أسبوعين فقط من بدء الدورة، بديلاً عن المخرج الإثيوبي هايلي غيريما، الذي أٌعلن عنه رئيساً للّجنة نفسها قبل نحو شهر. كما امتدّ اهتزاز الانتقال إلى حفلة الافتتاح، التي شهدت ارتباكات، خاصةً في تقديم فقرة تكريم صوما أرديوما (بوركينا فاسو)، المندوب العام السابق للـ"فيسباكو" (2014 ـ 2020)، واختيارات إلقاء الكلمات، وتسليم الدرع التكريمي لنور الدين الصايل، التي أثارت انتقاداتٍ كثيرة.
هذا كلّه قبل أنْ يرسو إيقاع المهرجان، شيئاً فشيئاً، على فقرات، شكّلت قلب عرضه وتموقعه المتفرّد بالحميمية، وسيادة النقاشات السينفيلية، في شكليها المبرمج وغير الرسمي، في باحات فضاءات العروض وجلسات الفنادق، أو في شكلها الكتابي على صفحات النشرة اليومية، خاصة المتعلّق بالعروض اليومية الـ3 للمسابقة الرسمية للأفلام الروائية (13 فيلماً من 11 دولة)، في قاعة "المجمّع الثقافي لخريبكة"، ثمّ مناقشتها مع مخرجيها وفرق العمل، صباح اليوم التالي، في حصصٍ تميّزت بالتنوّع والثراء نفسيهما، اللذين كانت القاعة تشهدهما عادةً، رغم التأثير السلبي النسبي لغياب الترجمة الفورية، في هذه الدورة، على حضور السينمائيين من جنوب الصحراء.
بالإضافة إلى "نقاش منتصف الليل"، إحدى الفقرات التقليدية المميزة للـ"فيكاك"، التي حاولت الحفاظ على تقليد المفاجأة التي طبعت الموعد الأول، المحتفي بذكرى الصايل، فيما خُصّصت فقرة أخرى بتقديم مؤلّفات حديثةٍ في السينما، قبل أنْ ينكبّ اللقاء الثالث على نقاط التقاء واختلاف في تجربتي الأندية السينمائية في بوركينا فاسو والمغرب.
لكنّ البرنامج لم يُتح حيّزاً لنقاشات سينفيلية عميقة، على غرار حصصٍ حاضرة في ذاكرة الـ"فيكاك"، أدارها باقتدارٍ نور الدين الصايل، وناقشت مواضيع متفرّقة، كـ"اقتباس الأدب في السينما العالمية"، أو خُصّصت بعرض ونقاش أفلامٍ من تراث السينما، كـ"الفهد" (1963) للوكينو فيسكونتي، وأخرى حديثة، متفرّدة الشكل، كـ"فيكتوريا" (2015) للألماني سباستيان شيبر، أو ذات وقع كبير، كـ"ماء الفضّة" (2014)، وثائقي للسوري أسامة محمد والكردية السورية وئام سيماف بدرخان، و"عيد ميلاد ليلى" (2008) للفلسطيني رشيد مشهراوي، في إطار الاهتمام بمقاربة سينما جنوب ـ جنوب، في معناها الواسع، التي كانت تحظى بالأولوية في تصوّر الراحل.
جديد الدورة الـ22 متمثّلٌ في قرارٍ، استحسنه الجميع: مسابقة خاصة بالأفلام الوثائقية (8 أفلام طويلة)، المعروضة في "قاعة الأفراح للمكتب الشريف للفوسفات"، أحد المعاقل التاريخية للمهرجان، التي جُدِّدت فباتت في حلّة حديثةٍ ورائعةٍ، ولا ينقصها إلاّ تحسينات قليلة، كطلاء الجدران بلونٍ لا يعكس الضوء، وتجهيزها بآلة عرض "دي سي بي". تُشكّل هذه القاعة مكسباً يُضاف إلى الفضاءات الرئيسية للمهرجان، إلى جانب "المجمّع الثقافي" و"الخزانة السينمائية..."، التي شهدت الندوة الافتتاحية، الخاصة بـ"قضية تمويل الإنتاج السينمائي في أفريقيا"، أوضح المشاركون فيها محدودية المصادر التقليدية للتمويل، المعتمدة على الدعم العمومي، وضرورة الانفتاح على وسائل جديدة، كالتمويل التشاركي، عبر استصدار الأسهم، أو استغلال تكنولوجيا العملات الإلكترونية، من دون نسيان الدور المتنامي لتقنية "الرمز غير القابل للاستبدال". نقاشٌ كان ينبغي تحديد معالمه في ثيمةٍ أدقّ، بحثاً عن نجاعةٍ أكبر، وحوارٍ أقلّ إثارة لسوء الفهم بين المشاركين والحضور.
نشاطات مؤثّرة ولقاءات مُفيدة
تميّز اليوم ما قبل الأخير بنشاطٍ لاقى إشادة كبيرة، نُظّم في إطار مشتركٍ بين الـ"فيكاك" والدورة الثالثة لـ"المهرجان الثقافي لفائدة السجناء الأفارقة"، بإشراف "المندوبية العامة لإدارة السجون"، بدأت فقراته بفيلمٍ مؤسّساتي قصير، يوضح جهود المندوبية في إدماج السجناء الأجانب في المغرب، من خلال أنشطة ذات بعد ثقافي وديني؛ وتخلّلتها شهادات مؤثّرة لبعض السجناء.
بعد العرض، طرحت ندوةُ "السينما كوسيلة لإدماج المهاجر" مواضيعَ مُثيرة للاهتمام، كضرورة الاستثمار في البُعد الإنساني للسينما، لتعويض أساليب الردع، بمقاربة التربية والإدماج، وتناولت ظاهرة الهجرة المنفلتة من القبض، نظراً إلى تحوّرها وتفاعلها الفائق مع تطوّرات البيئة الاجتماعية والاقتصادية، من منظور سينمائي أكثر إنسانية، يطوّر تمثّلاث المهاجر الأفريقي، وينحو بها من العنصرية، والحدود الجغرافية والعرقية والدينية، وآفة التوظيف السياسي الشعبوي، إلى آفاق البحث عن هوية أفريقية مشتركة، وتفعيل التعاون جنوب ـ جنوب، باعتبار أنّ السينما فن التماهي والتعاطف والغيرية بامتياز.
اتّسمت حفلة الختام بسلاسة وتحكّمٍ أفضل من حفلة الافتتاح، مع تكريمٍ مؤثّرٍ للممثّل المغربي محمد الشوبي، بعد عرض مَشاهد من أهمّ الأدوار التي أدّاها في مسيرته، منها الأصمّ الأبكم في"سوتو فوتشي" (2013) لكمال كمال، ودور الخبّاز الخسيس في "موت للبيع" (2011) لفوزي بن السعيدي، تُوِّج بكلمة جميلة للناقد مصطفى العلواني، احتفَتْ بمناقب الرجل، وأبرزها حرصه على التعبير عن قناعاته الملتزمة، ودفاعه عن قيم الحرية في مواجهة ديكتاتورية المواقع الاجتماعية، بدل التماهي مع موقف الأغلبية، تحاشياً لغضب الحشود، كما يفعل جُلّ الفنانين.
إلى ذلك، منحت لجنة تحكيم الفيلم الوثائقي جائزتها الكبرى إلى "المشي على المياه"، للفرنسية السنغالية آيسا مايْغا، التي عُرفت كممثّلة في فرنسا، تناولت فيه إشكالية ندرة المياه في شمال النيجر. وثائقي يُسحِر، لوهلة أولى، بجودة صورته، وفعالية تقطيعه التقني. لكنّ رؤية المخرجة تتوارى تدريجياً خلف معالجةٍ سطحية وأطروحية، تمنعها من النّفاذ إلى قلب الطرح الإنساني، والتماهي مع إيقاع عيش قبائل الرُحَّل في الصحراء، لفائدة تناولٍ انتهازي، يعتمد على تركيبة جمالية، تختزلها جيّداً اللقطات المجرّدة من أيّ روح، والمصوّرة بالـ"درون"، تملأ كلّ خانات ما ينتظره الغرب عادةً من أفلام الجنوب: التركيز على مظاهر البؤس، والتبئير على الشخصيات النسائية بمبالغةٍ تُفقِدها عمقها الإنساني، والإذعان لحبكةٍ ذات نهايةٍ سعيدة مُصطنعة، تصبّ بشكل مشبوه في استتيقا الأعمال الخيرية، والحلول السحرية.
جائزة لجنة التحكيم مُنحِت إلى "الرسالة"، لمايا لوكاو وكريستوفر كينغ: شاب كيني يسافر إلى قريته الأصلية، بعد تلقّيه رسالة تتهم جدّته بالشعوذة، وتهدّدها بالقتل، فيكتشف أنّ مئات النساء الطاعنات في السنّ يعشن الحالة نفسها لجدّته، وأنّ هذه الاتهامات ووجّهها أشخاص مقرّبون، يطمعون في الاستيلاء على أراضي الجدّات، في قرى موبوءة بخليط من التطيّر القروسطي، والافتتان بإغراءات مجتمع الاستهلاك.
خلّف غياب فيلمين رائعين من التتويج خيبة أمل كبيرة: "في المنزل"، رائعة المغربية كريمة السعيدي ("العربي الجديد"، 8 إبريل/نيسان 2022)، و"الحضانة الليلية"، للشاب موموني سانو (بوركينا فاسو)، عن يوميات فتيات الليل في بوبو ـ ديولاسو، اللواتي يضطررن إلى ترك أطفالهنّ، كلّ ليلة، لدى سيّدة عجوز، تعتني بهم، قبل عودتهنّ في الصباح الباكر لأخذهم، فينتج عن تفاوت برنامج النوم بين الأمهات والأبناء وضعيات مفارقة، يلتقطها المخرج بحساسية بالغة، ومسافة مناسبة، على ارتفاع الأطفال تارة، وبالاقتراب من عالم فتيات الليل تارة أخرى، ليخرجهنّ من قوالب النظرة الدونية والمحقِّرة، التي يلقيها عليهنّ المجتمع.
جوائز
أما لجنة تحكيم الفيلم الروائي، فمنحت جائزة أفضل إخراج لـ"حدث في 2 طلعت حرب"، للمصري مجدي أحمد علي، الذي يؤدّي فيه فضاء عمارة دور شخصية رئيسية، تتوالى عليها شخصيات من أزمنة مختلفة في تاريخ مصر، تعيش 4 قصص حبّ مُحبِط، يلتقطها المخرج على خلفية التقلّبات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها مصر. لكنّ عوامل عدّة ـ كالتفاوت الكبير بين مستوى أقسام الفيلم (أفضلها الأول والرابع، حيث يؤدّي سمير صبري دوراً رئيسياً مؤثراً، بتمكّنه وصدقه)، واهتزاز إيقاع القسمين الثاني والثالث، وغياب التناغم أحياناً بين الحبكة الصغيرة والكبيرة ـ أثّرت كثيراً على تماسك الفيلم.
جائزة أفضل سيناريو لـ"ليلة الملوك"، للمخرج الإيفواري فيليب لاكوت، الذي قدّم فانتازيا جذّابة ومغرقة في السحرية، عن واقع فضاء السجن المزدحم "ماكا"، في أبيدجان، الذي يقاربه من منظور قاتم ومسرحي، عبر قصة زعيم يلقى معارضة كبيرة في خريف حياته، فيلجأ إلى حيلة إجبار سجينٍ على رواية قصصٍ، الليل كلّه، بغية الحفاظ على حياته.
كما مُنحت جائزة لجنة التحكيم لـ"ماشية لجهنم"، للتونسية أسمهان لحمر، الذي كان محطّ ترقّبٍ بسبب الصّيت الكبريتي الذي سبقه، بعد منع الرقابة عرضه في "مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية": امرأة (40 عاماً) تعاني مرضاً عضالاً، تقرّر تمضية الزمن القليل الذي يفصلها عن الموت في الشرب والغناء والاستمتاع بالسباحة في زيّ حورية البحر، التي أعجبت بها منذ طفولتها، كرمز للحرية. لكنّ قرارها تنظيم جنازة غير تقليدية، تحتفي بالموت عبر الموسيقى والفرح، بدل المظاهر الاعتيادية للحزن والبكاء، جعلها تصطدم بمحيطها العائلي، المتّسم بالمحافظة والوصاية على الإرادة الفردية. طرح جريء وملتزم، عالجته المخرجة ببرهانية كبيرة، وشخصيات نمطية تتصرّف بشكل مانوي.
كان يُمكن لصورة الحورية الاحتفاظ بكلّ قوتها، حتى تحضر في مشهد الجنازة الختامي، بعد أنْ استُحضرت في مقدّمة الفيلم بصوت البطلة، لولا أنّ السرد ابتذلها في مشاهد مكرّرة في المسبح والشاطئ، قبل أنْ يرتديها جميع أفراد العائلة، في مشهدٍ حالمٍ. إنّها أبلغ مُعبّر عن معالجةٍ بطابع البرهنة، وتغليب الثيمة والتصريح بالنوايا على الإيحائية الفنّية.
اختيارٌ يفصح عن رؤية السينما، والحساسية الفنية التي تُحرّك لجنة التحكيم، برئاسة سعد الشرايبي، التي أهدت جائزتها الكبرى لـ"خريف التفاح" للمغربي محمد مفتكر، ومكتفية بمنح تنويه بالصورة لـ"أوليفر بلاك"، الحاصل أيضاً على جائزة "دون كيشوته"، الممنوحة من "الجامعة الوطنية للأندية السينمائية"، و"جائزة النقد"، بصفته أحد أرفع أفلام الدورة، بإيقاعه المتأمّل في طبيعةٍ صحراويةٍ خلّابةٍ، جعل منها المخرج توفيق بابا فضاء عزلةٍ وتوهان في فضاء مغلقٍ على الهواء الطلق، لشخصيتي عجوزٍ متعب، يسعى إلى حضور زفاف ابنته، ومهاجرٍ من جنوب الصحراء، يحاول بلوغ المغرب ليتعلّم فنّ السيرك، أطلق عليه المخرج ـ كاتب السيناريو اسم "فوندرودي" (الجمعة)، في إشارةٍ إلى رواية دانيال ديفو، "روبنسون كروزو"، التي قدّم لها قراءةً حديثةً ومُلهمَة، يلامس فيها ـ بفضل تناولٍ فلسفي ومنزاح بذكاء ـ ثيمات معقّدة، كالموت والتبعية وعبثية السعي، في إطار عالمٍ أنهكه حبّ الماديات، وامتهان كرامة الإنسان من أجلها.
أُسدل الستار على دورةٍ انتقاليةٍ من الـ"فيكاك"، بمشاعر امتزجت فيها فرحة اللقاء بعد توقّفٍ طويل، بالأسى على غياب نور الدين الصايل عن فضاءات وأنشطة، أطّرها برؤيته النافذة، وكلماته الموزونة والمُعبّرة عن أفكار نفّاذة وثمينة. يُحسب للمنظّمين أنّهم أخرجوا هذه الدورة من رحم سياق صعبٍ ومضطربٍ، كان يهدّد بتوقّف المهرجان، كما حدث عام 1994، عندما توقّف 6 أعوام، بسبب خلافات سياسية.
يبقى التحدّي الأكبر في الأعوام المقبلة، هو تعزيز المكاسب المسجّلة، وتقويم الاختلالات، لإرساء دعائم مهرجان قويّ وأكثر احترافية، باستراتيجية انتقاء استشرافية ومنقّبةٍ عن مواهب جديدة ومتفرّدة، تحظى بقدرٍ مُرضٍ من أسبقية العرض في القارة، أو في منطقة شمال أفريقيا على الأقلّ، ولجان تحكيم رفيعة، وحضورٍ أكبر لتاريخ السينما الأفريقية والـ"سينفيليا" في البرمجة، تجعل الـ"فيكاك" منارة لإشعاع سينما القارة السمراء.
خريبكة والمغرب وأفريقيا بحاجةٍ إلى ذلك.