غيّر فيلمٌ له تاريخ السينما في بلده، بل قال البعض إنّه الفيلم الذي حدّد تاريخ السينما في إيران، إذْ بات هناك ما قبل "البقرة" (1969)، وهناك ما بعده. إنّه فيلمه الثاني، وكان لا يزال مبتدئاً حينها. مُنع الفيلم في إيران، وعُرض خارجها بعد عامين، في "نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ24 (12 ـ 27 مايو/أيار 1971) لمهرجان "كانّ". آنذاك، اكتُشِف داريوش مهرجويي، رائد ما يُعتبر "الموجة السينمائية الإيرانية الجديدة"، أوائل سبعينيات القرن الـ20.
باستثناء ما جلبه لمخرجه من اعتراف محلي وعالمي، ارتبط "البقرة" بحكاية أساسية، تتكرّر كلّ مرة يُراد فيها الحديث عنه. ففي اليوم التالي لعرضه على التلفزيون الإيراني، بعد "الثورة الإسلامية"، أعلن الخميني ما فاجأ الجميع: "علينا صنع أفلامٍ كهذه. نحن لسنا ضد السينما، لكنْ ضد الأفلام الفاسدة والمُفسدة". عادت السينما إلى إيران بعد توقّف. أبهر "البقرة"، المأخوذ عن قصة للروائي الإيراني غلام حسين ساعدي، بتصويره قرية فقيرة وسكّانها البسطاء بواقعية موشّحة برمزية سحرية، ولغةٍ بصرية مبتكرة في تكثيفها الأسود والأبيض، وبُعدٍ فلسفيّ في وصف علاقةٍ، يُمكن القول إنّها شبه أسطورية، بين ريفيّ وبقرته. وحين اختفت بقرته المحبوبة، قرّر الرجل أنْ يحلّ محلّها، ويأخذ دورها. كأنّه توحّد المحبّ مع المحبوب (استشهد مهرجويي، في حديثٍ مع الناقد الفرنسي جان ـ ميشال فرودون، بالفيلسوف المتصوّف ابن عربي، في تفسيره تحوّل القروي).
لعب "البقرة"، إلى جانب "قيصر" (1969) لمسعود كيميايي و"الهدوء في حضرة الآخرين"(1972) لناصر تقوايي، دوراً محوريّاً في إطلاق حركة "الموجة الإيرانية الجديدة"، واعتُبر نقطة تحوّل في تاريخ السينما الإيرانية. المثير في الأمر أنّه لقي أيام الشاه المصير نفسه الذي تعرفه أفلام إيرانية اليوم. حينها، موّلته "وزارة الثقافة الإيرانية"، ثم غضبت منه بعد مشاهدة نسخة نهائية، لم تتوافق مع الحملات الدعائية للشاه عن تحديث الريف. مُنع الفيلم. قبله، حقّق مهرجويي، إثر عودته من الدراسة في كاليفورنيا، أول فيلم له، "ألماس 33" (1966): فيلم هزلي تجاري، حاكى بأسلوب ساخر شخصية جيمس بوند. في كاليفورنيا، التقى المخرج الشاب روّاد "الموجة الفرنسية الجديدة"، ومن باتوا أهمّ سينمائيي العالم: جان ـ لوك غودار ولويس بونويل وإنغمار برغمان وميكيل أنجلو أنتونيوني. كما تعلّم على يدي جان رونوار. لكنّه اختار لاحقاً دراسة الفلسفة، لعدم ميله إلى اهتمام السينما الأميركية بالنواحي التقنية على حساب الفنّية.
بعد منع "البقرة" 3 أعوام، حقّق مهرجويي أفلاماً تنتمي إلى أنواع سينمائية منوّعة، منها "هالو آغا" (1970، "السيد الساذج" بحسب العنوان الفرنسي): ممتعٌ وساخر، عمّا يصادفه قادمون من مدن صغيرة إلى عاصمة كبيرة من نَصب وخداع على أيدي رجال ونساء، فوقع هالو الساذج في مطبّات لا تحصى. لاحق الحظر أفلامه أيام الشاه، فمُنع "بوسطجي" (1971)، و"دائرة مينا" (1974)، المستوحى من الاتّجار بالدم البشري، الذي يتعرّض له الأشخاص الأكثر فقراً.
بعد "الثورة الإسلامية"، قرّر مهرجويي، الذي غادر إيران متوجّها إلى فرنسا، العودة إلى بلده، منتصف الثمانينيات الفائتة، واستأنف مسيرته، فأخرج أفلاماً بارزة عدّة، كـ"المستأجرون" (1986)، الذي لقي نجاحاً شعبياً كبيراً في إيران. ثمّ أخرج نوعية مغايرة، تنتمي إلى الكوميديا السوداء، فتناول في "هامون" (1990) 24 ساعة في حياة مثقّف يعاني اكتئاباً من طلاقه، وهموماً فكرية في إيران، التي غزتها شركات التكنولوجيا. وفي ثلاثيّته، "سارة" (1993) و"باري" (1995) و"ليلى" (1996)، رسم لوحات نسائية معبّرة. كان غزير الإنتاج، فتوالت أفلامه، وبلغ عددها نحو 25.
لكنْ، إنْ كان داريوش مهرجويي (مواليد طهران، 1939) عانى المنع مرّات عدّة في عهد الشاه، عرفت أفلامٌ له المصير نفسه بعد الثورة، آخرها "لا مينور" (2021) المعروض بعد منعٍ، بفضل الاعتراض العلني لمخرجه على الرقابة وانتقاده، كما كان يفعل دائماً، ما يُفرَض على السينما الإيرانية من قيود. انتشر فيديو يقول فيه، بعد منع فيلمه الأخير: "لم أعد أستطيع التحمّل. سوف أجلس مع مساعدي في وزارة الإرشاد. أريد القتال. هيا اقتلوني. هذا هو صدري. اقتلوني. لكنّي سآخذ حقي".
أكثر فيلم له أثار صدى واسعاً وإشاعات كثيرة، كان "سنتوري" (2007)، لاعتقادٍ بأنّه يُحيل إلى شخصية دينية مشهورة، كما تداول الناس آنذاك. هذا الفيلم منع أولاً من العرض، ثم قُدِّم للصحافيين فقط، قبل تغيير عنوانه من "علي السنتوري" إلى "سنتوري" (مثّلت فيه غولشفته فراهاني دوراً رئيسياً)، الذي يروي قصة علي، عازف السنتور، الذي وقع في فخّ الأفيون، فتخلّت عنه حبيبته، وانقلبت حياته من عازف ماهر يُتوخّى منه الإبداع، إلى متشرّد بائس، يعيش حياة هامشية مع المشرّدين، بعد تخلّي الجميع عنه.
معروفٌ أنّ مهرجويي عازفٌ على آلة السنتور، وكان يؤلّف موسيقى أفلامه، ويميل، بين حين وآخر، إلى أفلامٍ ذات محتوى فلسفي وجودي، تضعه على حدة بين المخرجين الإيرانيين، كـ"آسمان محبوب" أو "سمائي المحبوبة" (2011)، أحد أفضل أفلامه وأكثرها تعبيراً عن فكره الفلسفي وثقافته العالية. فيه، يُدرك رجلٌ أنْ لديه مرضاً عضالاً، فيترك عمله اليومي، ويتخلّى عن نمط حياته. في رحلة هروبه من المدينة، يجد نفسه في قرية، تصادفه فيها أحداثٌ غير متوقّعة. تتأرجح الحكاية، إلى حدّ ما، بين الخيال ومكوّنات كلاسيكية معروفة، كالهروب اللاواعي من الزمن، والعودة بعدها إلى الزمن العادي، ليكون الدليل المتبقي الذي يثبت أنّ المغامرة حقيقية. لهروبه من الزمن، يدخل عالماً خيالياً يتمّ فيه شفاء مريض السرطان المدان. الأمل اليائس من الشفاء دفعه إلى هذا الهروب. الفيلم رحلة داخلية إلى حدود الموت: بينما يكون المنتحر في غيبوبة، يسافر إلى أرض خارج الزمن، ويدافع عن حياته هناك، فإنْ خَلُص هناك، سيتم خلاصه هنا.
يكمن سحر "آسمان محبوب" أيضاً في أماكنه، وفي جعلها محسوسة: طرقات الجبال الإيرانية، وكتلها المغطاة بالثلوج فوق الصحاري، والقرى ترابية اللون، وأشجار الحور، والأنهار في البساتين، وشرفات المنازل الريفية القديمة، الأنيقة مهما كانت متواضعة. يُظهر القرية كمكان، وأيضاً كمجتمع بشري مُتّحد حول كلّ فرد من أفراده، ويصلي من أجل موتاه وأحيائه، فالجميع يعانون معاً، كما في الحكايات، مرضاً غامضاً، لكنّهم يتعافون منه.
هذا وحده كافٍ لجعل الفيلم جيّداً، لكنّ نجاحه يذهب إلى أبعد من ذلك، بمزجه وصف حياة الفلاحين (والوصف ذو مصداقية) بمصائبها، كالفيضان الذي أودى بحياة المشلولين، الذين لا عزاء لهم. مع خيال طفولي قليلاً، أحياناً، كالرجل الذي يلتقط الحياة بيد مليئة باللآلئ، في جدولٍ لا يرى فيه الآخرون سوى الحصى؛ وعيني الرجل الحكيم اللتين تضيئان فجأة، واللتين تعرفان أسرار النباتات، وتقدّسان أسرار النفوس. كلّها إشارات تعطي انطباعاً بأنّ الواقع الطبيعي خارق للطبيعة.
مؤكّد أنّ أفلام داريوش مهرجويي متفاوتة المستوى، ومتنوّعة المضمون. كان ينتقل من أفلامٍ فكرية فلسفية إلى أخرى هزلية تجارية، بل سطحية أحياناً، كـ"البدلة البرتقالية" (2012)، وفيلمه الأخير. لكنْ، أي فيلمٍ له يُعلن عنه، يستقطب الجمهور الإيراني. ربما لذلك لم يصل أحد إلى مستوى شعبيته في إيران، ولم ينل هذه النظرة المليئة بالاحترام التي أحيط بها. كان المثقفون يميلون إلى أفلامٍ من نوع "آسمان محبوب" و"هامون" و"البقرة"، والجماهير إلى "سنتوري" وسلسلته النسائية. حقيقة، يصعب الفصل بين الجانبين، لكنْ يمكن القول إنّ أحد الجانبين يميل أكثر إلى أفلامٍ معينة، والآخر إلى أفلام أخرى. مع هذا، يلتقي الجانبان في حبّه والإعجاب به كأحد "مثقفي" السينما الإيرانية، وكسينمائي يلائم الذوق الإيراني. في حياته المهنية، نال جوائز وأوسمة عدّة في بلده، لمساهماته في السينما الإيرانية، وفي الخارج أيضاً. مع هذا، لم تصل شهرته إلى مستوى شهرة عباس كيارستمي.
في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2023، صُدم الإيرانيون والسينمائيون في العالم بالإعلان عن العثور على داريوش مهرجويي وزوجته وحيدة محمدي فر (1969)، كاتبة سيناريو ومساعدة مخرج عملت معه، مَطعونَين في منزلهما في مدينة "كرج"، غربي طهران. لم تتوفر معلومات عن الأسباب، لا سيما أنّ أقفال باب المدخل لم تُخلع. كانت زوجته ذكرت، في حديثٍ إلى صحيفة "اعتماد"، أنّ منزلهما تعرّض للسرقة. لكنْ، إلى الآن، لا تزال الدوافع غامضة، مع أنّ السلطات أعلنت عن الاشتباه بـ4 رجال، اعتقلت اثنين منهما. وبدأ الإيرانيون نشر مقاطع فيديو عنهما على مواقع التواصل الاجتماعي، منها مقطع فيلم صوّرته "بي بي سي" بالفارسية، سيُبثّ قريباً، بمناسبة عيد ميلاده الـ85، وفيه حوار بينه وبين زوجته، في مكان عام، يطلب فيه منها خلع حجابها، فتفعل، وتعلّقه على شجرة. هناك مقطع آخر يقولان فيه أنّ القتلة "بيننا"، وأنّه يجب أنْ "نكون حذرين"، ثم يردّد هو الجملة نفسها باللغة الفرنسية: "القتلة بيننا".
هذا يُذكِّر بتساؤلات سابقة أُثيرت بعد العثور على المخرج كيومرث بور أحمد (1949 ـ 2023)، أحد أبرز المخرجين الإيرانيين، مشنوقاً في منزله، في 5 أبريل/نيسان الماضي. حينها، قيل إنّه انتحر، وهذا نفاه شقيقه. لعلّ الأيام المقبلة تكشف ما حصل مع الزوجين مهجرويى.