معرض "سينما 3" في مرّاكش: لا مستقبل لمن لا يهتمّ بتاريخه

04 نوفمبر 2020
خديجة نور في "أهل القبو" لمصطفى الدرقاوي (العربي الجديد)
+ الخط -

 

من قلب المدينة العتيقة بمرّاكش، تحديداً في فضاء عروض "لودِزويت" (رقم 18)، وسط أزقّة درب الفرّان الضيّقة، انبعث نشاطٌ فنّي كشعاعٍ يشقّ عتمة الجمود، الذي خلّفته إجراءات الحجر الصحي، المفروضة بسبب كورونا.

رسالة أمل تحمل رمزية كبيرة، لأنّها تنبع من مدينة تأثّرت بشكل بالغ بالأزمة، بحكم طابعها السياحي، خصوصاً لأنّها تلقي الضوء على جانب مهمّش وشبه مجهول من تاريخ السينما المغربية، رغم أهمّيته القصوى. هذا يتعلّق بتفاصيل دراسة واشتغال طلبة السينما والفنون الجميلة المغاربة في "مدرسة وودج" في بولندا، أواخر ستينيات القرن الـ20 وبداية سبعينياته؛ وبرؤيتهم لدور السينما في بلدهم المستقلّ حديثاً، وخطواتهم الأولى في إخراج الأفلام القصيرة، نظراً إلى تأثيرها العميق على شكل السينما المغربية الرائدة وخطابها.

 

لماذا المعرض؟

"في إطار بحثي حول تاريخ السينما في المغرب، جذب انتباهي المخرج مصطفى الدرقاوي، الذي اشتغلت معه على ترميم فيلمه الأول "أحداث بلا دلالة" (1974، حقّقت عروض نسخته المرمّمة في مهرجانات عريقة، كالـ"برليناله"، صدى كبيراً، وكُتبت مقالات عنه في صحف ومجلّات عريقة عام 2019 ـ المحرّر). وأيضاً المخرج كريم إدريس، المتوفي عام 2009، إذْ بحثتُ عن أفلامه المنتجة بالتعاون مع عالم الاجتماع بول باسكون. كلاهما درس في "مدرسة وودج للسينما"، على عكس سينمائيين مغاربة عديدين، توجّهوا بعد استقلال المغرب إلى باريس لدراسة السينما في IDHEC (La Femis حالياً ـ المحرّر)"، كما قالت ليا موران، المشرفة على المعرض عبر مؤسّسة "لوبسيرفاتوار للفنّ والبحث"، حول بواعث فكرة إقامة المعرض. أضافت: "هذا ما حرّك فضولي، وجعلني أتساءل: ما هي الدروس التي تلقّوها؟ ما هي أفلامهم المرجعية؟ كيف طوّروا في بولندا مقاربة للسينما الوثائقية والاهتمام بالسينما السياسية والاجتماعية؟ ما الذي احتفظوا به من هذا التأثير البولندي في السينما التي صنعوها عند عودتهم إلى المغرب؟".

بدأ الأخوان الدرقاوي (مصطفى وعبد الكريم) دراستهما في "وودج" عام 1966، بعد دراستهما اللغة البولندية عاماً كاملاً. هناك، التقيا عبد الله إدريسي، الذي سبقهما بعامٍ واحد، قبل أن يلتحق بهم عبد القادر لقطع (1967) وإدريس كريم وحميد بنسعيد (1968): "أمضى أخي مصطفى 8 أشهر في IDHEC عام 1963. كان يُشاهد يومياً أفلاماً من العالم في "سينماتيك شايو"، لأنّه ضاق ذرعاً بنمط الدراسة المرتكز على النظريّ لأساتذة كجان ميتري وجورج سادول. بعدها، عاد إلى المغرب، واشتغل بالتدريس، بانتظار نيله شهادة البكالوريا. ثم درسنا السينما في أوروبا الشرقية"، يتذكّر عبد الكريم الدرقاوي. مُضيفاً: "كان لدينا آنذاك ـ بحكم وفرة منح الدراسة المقدّمة من سفارات دول المعسكر السوفييتي لاهتمامها بالعمل الثقافي المشترك مع الدول النامية ـ ترف الاختيار بين الدراسة في "المعهد الوطني للسينما (VGIK)" في موسكو، و"مدرسة السينما والتلفزة (FAMU) في براغ التشيكوسلوفاكية، و"المدرسة الوطنية للسينما" في بولندا، المُشيّدة في مدينة "وودج" كتدبير مؤقّت، بانتظار نقلها إلى فرصوفيا بعد إعمارها، جرّاء الدمار الكبير الذي تعرّضت له في الحرب العالمية الثانية، قبل أن يُصرف النظر عن ذلك. اخترنا "وودج"، لأنّ أخي مصطفى، بفضل المُشاهدة المكثّفة للأفلام، افتُتن بالسينما البولندية، ذات الصيت الكبير في أوساط باريسية في الستينيات الماضية، بفضل مخرجين كبار، كأندره فايدا وأندره مونك وجيرزي كافاليروفيتش".

 

في فقرة "الأولى، الثانية والثالثة: نجوم مجاورة من كوكبة الدب الأكبر"، تُعرض أفلامٌ مُنجزة في ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته وثمانينياته، لمخرجين من المغرب والجزائر وموريتانيا. لكنّ عَصب البرنامج يتمثّل في رفع اللثام، لأول مرة خارج بولندا، عن أفلام التخرّج التي صنعها خرّيجو "مدرسة وودج"، المعروضة بشكل مستمر بتقنية الفيديو، طيلة فترة المعرض (بين 26 سبتمبر/أيلول و25 ديسمبر/كانون الأول 2020)، قبل عرضها في 14 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري في "متحف إيف سان لوران"، في عيد السينما الـ3 في مرّاكش: "أفلام جميلة للغاية، تُفصح عن تحكّم كبير في فنّ الحكي والتعبير بالصّورة، وتُقدّم نبذة شافية عن سينما مغربية ممكنة بكامل قواها. صوّر السينمائيون المغاربة في "وودج" الهوامش والأقلّيات: عائلات الغجر، والعنصرية ضدّ السود، والصعوبات اليومية للعازبات والعمّال. اكتشفوا جماليات ومواضيع وطبيعة سردية راديكالية للأفلام الطويلة لمصطفى الدرقاوي منذ محاولاته القصيرة الأولى، ومواضيع نادراً ما تتطرّق إليها السينما المغربية، كالفيلم القصير للدرقاوي عن موحا أوحمو، وفيلم عبد القادر لقطع عن الاغتيال السياسي، وإدريس كريم غير المتردّد في تصوير الجسد العاري، في بورتريهات نسائية. في "مدرسة وودج"، تمكّنوا من التجريب في السينما المغربية المقبلة. ويبقى أكبر اكتشاف لي سينما إدريس كريم، التي تُفصح عن نضج مدهش منذ المحاولات الأولى"، تضيف ليا موران.

 

صعوبات وتحدّيات

إدريس كريم (طنجة، 1938)، مخرج الوثائقيّ القصير "أطفال الحوز" (1970)، الذي أثار نقاشاً حاداً في مجلة "أنفاس" الملتزمة، في السبعينيات الماضية، لتعرّضه لمقصّ الرّقابة، قبل انشغال مخرجه بالتلفزيون بين المغرب وفرنسا، ما يعطي فكرةً عن حجم العراقيل البيروقراطية التي اعترضت طريق هذه المجموعة، عند عودتها إلى المغرب، وحَدّت من إشعاعها، على غرار قصص إحباط أخرى تعرّضت لها طاقات إبداعية واعدة من جيل الرّواد. الفيلم مفقود للأسف، ولا تزال ليا موران تحاول اقتفاء أثره: "سعياً إلى إعادة بناء سينما إدريس كريم، رغم أنّ أفلامه (كما يبدو) مفقودة، بحثتُ في بولندا عن أفلامه الأولى في أرشيف "مدرسة وودج". لم تُشاهَد هذه الأفلام سابقاً. إنّها المرّة الأولى التي يُبْحَث فيها عن التفاعل بين بولندا وصانعي الأفلام من "العالم الثّالث" في "مدرسة وودج"، في الستينيات والسبعينيات. حظي البحث فوراً باهتمام كبيرٍ من البولنديين، الذين يرغبون أيضاً في إعادة اكتشاف هذا التاريخ المشترك". أضافت موران: "تمّ بناء السينما الوطنية المغربية أيضاً، انطلاقاً من تاريخ التفاعلات العابرة للثقافات والتأثيرات والأفكار المشتركة، مع طلبة من أنحاء العالم (خاصة من "العالم الثالث"، كأميركا اللاتينية)، عن حال العالم وشكل السينما المقبلة".

يتناول المعرض هذه الفترة: نضال القارات الثلاث، والالتزام السياسي، وشخصيات كالمهدي بن بركة، الذي يُكرّمه عبد القادر لقطع في فيلمٍ له عن ناشط سياسي (يؤدّي دوره مصطفى الدرقاوي) يتعرّض للاغتيال في المنفى: "اكتُشفت قصّة منسيّة كلّياً: تعاون لقطع، عند إقامته في بولندا أوائل السبعينيات، مع فنانين بولنديين، منتمين إلى المذهب التصوّري (المفاهيمي)، ما أنتج معارض وأعمالاً تفعيلية، لا تزال محفوظةً في متاحف الفن في بولندا، بينما لا يحتفظ هو نفسه بأيّ أثر لتجاربه التشكيلية. هذا مثير".

 

 

فترة فوران إبداعي عاشها الطلاّب المغربة. مكّنتهم المدرسة من الاحتكاك بمخرجين واعدين آخرين، لديهم حساسيات وثقافات مختلفة، لكنّهم يجتمعون معاً في السعي إلى تطوير تعبيرات سينمائية، تمزج الخلق بخطاب ملتزم، يلتحم بقضايا شعوبهم، ويقدّمها في قالب فنّي: "لم نتوقّف عن تصوير الأفلام. المثل الفرنسي يقول إنّ المرء لا يصبح حدّاداً إلا بصهر الحديد، استعارة عن أهمية الممارسة والاحتكاك بالميدان"، يقول عبد الكريم الدرقاوي، مضيفاً: "تمارين التصوير التي اشتغلناها متنوّعة ودقيقة للغاية، تبيّن الفرق بين التصوير في فضاءات مغلقة وأخرى مفتوحة على فضاءات، وساكنة المدينة".

هناك أيضاً صُور فوتوغرافية منتقاة من آلاف الصُور التي التقطها عبد الكريم الدرقاوي، محتفظاً بها على الفيلم الخام، تُظهر أوجه حياة المجموعة الدراسية بتنويعاتها، بما في ذلك اجتماعات الاتحادات الوطنية والأفريقية لطلبة السينما في بولندا. صُور تنبئ بموهبة الدرقاوي في التصوير، تُدين لها السينما المغربية بأفلامٍ عدّة مهمّة، اشتغل فيها مدير تصوير: "حصلتُ على أول كاميرا فوتوغرافية في سنّ الـ13، بفضل قريب لي مهاجر إلى لندن. لم أتوقّف عن التقاط الصُور منذئذ، ولا أزال أملك الصُور التي التقطتها في فترة المراهقة. أخذتُ معي إلى بولندا كاميرات عدّة من نوع "فليكساريت" و"ياشيكا". ذهبتُ بكامل عدّتي الحربية"، يقول الدرقاوي مازحاً: "المعرض يحتوي على الصُور التي التقطتها في 7 أعوام أمضيتها هناك. عام لتعلّم اللغة، و4 أعوام في الدراسة، وعامٌ لإنجاز بحثٍ وفيلم التخرّج، وعام أخير بسبب تزامن التخرّج مع محاولة انقلاب الصخيرات (1971) والتوتّر السياسي في تلك المرحلة".

 

صُور وملصقات

يُلقي المعرض ضوءاً أيضاً على مقتنيات وأغراض فنّية لعبد الكريم الدرقاوي وأحمد البوعناني (كالغلاف الأصفر لمجلة السينما المشهورة "سينما 3"، التي أشرف عليها نور الدين الصايل، وشكّلت إلهام ملصق الحدث وعنوانه)، تعطي فكرة عن اهتمامات المخرجين المغاربة الرّواد: "بحكم طبيعته كمختصّ أرشيف حقيقي، احتفظ الدرقاوي بأغراض ووثائق عدة من تلك الفترة: مقالات صحفية، وكاميرات تصوير فوتوغرافي وسينمائي، أسطوانات، كتب، إلخ. تشهد على تعلّقه بالبلد، وأهمية اللقاء المحتدم مع الحياة الثقافية والفنية البولندية، التي تركت آثاراً لا تزال ظاهرةً في حياته اليومية، بعد مرور نحو نصف قرن"، كما توضح ليا موران، مضيفةً: "حظي ملصقا "الناعورة" (1984، للدرقاوي والعربي باطما ـ المحرّر) و"عنوان مؤقّت" (1983، للدرقاوي وفريد بلكاهية ـ المحرّر)، اللذان أنجزهما الفنان التشكيلي عزيز السيد، دارس الفنون الجميلة في بولندا أيضاً، باهتمام خاص من زوّار المعرض. يلخّصان كلّ تاريخ التفاعل بين المدرستين المغربية والبولندية (أسلوب عزيز السيد متأثّر بمدرسة الملصقات البولندية)، وأيضاً تلك الرغبة القوية جداً، التي طبعت السبعينيات، في التعبير المشترك بين الفنون، خصوصاً بين المخرجين من جهة، والفنان التشكيلي بلكاهية والموسيقي باطما من جهة أخرى. كلاهما مثّلا في أفلام الأخوين الدرقاوي"، تستطرد ليا موران، قبل أن تختم: "هذا المعرض ثمرة جهد جماعي لأشخاصٍ ومُساهمين عديدين. المخرجون أنفسهم أولاً، لكنْ أيضاً عائلات المخرجين الراحلين. وبفضل مشاركة الباحثة ماري بيار بوتير، والتعاون الفني مع الفنانة وئام حداد والثنائي سكينة أبو الولاء وإيفون لانغي، وفريق فضاء العرض "لودِزويت" خصوصاً. جميعهم استثمروا في إعداد المعرض، للتمكّن من مشاركة القصص المنسية منذ زمن طويل، رغم أنّها أساسية".

بقدر ما تُثلج مبادرات خاصة كهذه صدور المتابعين، توضح في الوقت نفسه حجم الإهمال والخسران، لأنّها تمثّل خطوة واحدة فقط مما يُمكن فعله في إعادة الاعتبار لتاريخ السينما المغربية وتأهيل أرشيفها، إنْ تتضافر الجهود وتلقى مبادرات كهذه دعم المؤسسات الرسمية ومواكبتها، سعياً إلى محاربة الجحود والنسيان. فتراث السينما المغربية لا يتعلّق بماضيها فقط، بل بمستقبلها أيضاً. وما قيل مراراً، يُستعاد هنا: لا مستقبل لمن لا يهتمّ بتاريخه أولاً.

المساهمون