مسيو أزنافور: المغنّي وصوته الممتد منذ الخمسينيات

29 أكتوبر 2024
أزنافور في نيويورك عام 1956 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "مسيو أزنافور" يعكس شخصية شارل أزنافور، الذي كان يعتبر نفسه كاتب أغاني أكثر من مطرب، وشارك في كتابة الفيلم واختيار صنّاعه، مما أضفى عليه لمسة شخصية.
- يروي الفيلم صعود نجومية أزنافور منذ الخمسينيات، مسلطاً الضوء على صداقاته مع فنانين مثل إديت بياف، وتغلبه على التحديات بفضل موهبته في كتابة الأغاني وأدائها.
- وُلد أزنافور لعائلة أرمنية في باريس، وكتب أكثر من ألف أغنية وغنى بثماني لغات، مما جعله أشهر فنان فرنسي عالمي، وترك إرثاً فنياً كبيراً.

على مدار مسيرته الفنّية، لم يستطع شارل أزنافور (1924 - 2018) هجر خشبة المسرح طويلاً، هو الذي قال ذات يوم: "الاعتزال دهليز الموت". في مقابلة تلفزيونية معه أواخر تسعينيات القرن الماضي، قال أشهر مطربي فرنسا وهو في الخامسة والسبعين من عمره، إنه يعتبر نفسه كاتباً للأغنية أكثر من كونه مطرباً. اندهش المحاور وهو يردّ عليه متسائلاً: "هل ما زلت طموحاً وأنت في هذا العمر كما كنت في شبابك؟". أجاب أزنافور بهدوء: "كلا، لست طموحاً، لنقل إنني طالما سعيت بشيء من التكبّر لأنجز عملاً جيداً، لكنه كان تكبّراً في موضعه، فقد كنت أريد تقديم نوع من الكمال الفني، بطريقة عمل قد توحي بالإهمال".
يشبه فيلم "مسيو أزنافور"، الذي طرحته شركة Pathé أخيراً، المغنّي ذا الأصول الأرمنية بقوة، فقد ظهر الفيلم بصورة متقنة، نستطيع حتى أن نصفها بـ"المبالغ فيها"، (هل أقول المتكبرة؟)، فكل كادر في العمل الذي امتدّ إلى ساعتين و13 دقيقة، بدا مصقولاً غارقاً في الإضاءة الشاعرية الحالمة، وتأثير تقنيات الكرومو التي غلّفت الصور ببريق يعمي العين أحياناً، وهو أمر مفهوم، إن وضعنا في الاعتبار رغبة العائلة والأحفاد في صناعة "هالة سينمائية" تخلّد الفنان الكبير، كما أن أزنافور شارك بنفسه في كتابة الفيلم قبل رحيله بست سنوات، بل وساهم في اختيار بعض صنّاعه ونجومه، فالشركة المنتجة للعمل على سبيل المثال هي "كلوش سينما" التي يملكها جان رشيد كلوش، المتزوج من ابنة أزنافور كاتيا، التي كانت تغني في الكورال خلف والدها خلال جولاته الفنية العالمية.
أدى دور بطولة الفيلم الممثل طاهر رحيم الذي أبدع في تجسيد انفعالات أزنافور أمام كاميرا المخرجين القادمين من عالم الغناء والموسيقى: مهدي إدير، وفابيان مارسو المعروف باسم "غران كور مالاد"، أو "الجسد الكبير المريض"، إثر تعرّضه إلى حادث قيد حركته، ومن بطولة: ماري جولي بوب (إديت بياف)، وباستيان بويون (بيير روش) وروبرت وين جيمس (فرانك سيناترا).
في تصريح له قبل أسابيع من إطلاق الفيلم، قال رشيد كلوش لمجلة "فاريتي" إن طاهر رحيم هو الممثل الأنسب لأداء دور أزنافور، إذ يتشاركان العديد من أوجه التشابه في "الإحساس والاندفاع والشغف تجاه عملهما، إضافة إلى النظرة الخبيثة في عيونهما، كما كان عليهما أن يتغلبا على كثير من الصعاب لتحقيق نجاحهما في فرنسا". وقد سبق لرحيم أن أدّى دور شاب أرمني عبر شخصية نازاريث مانوغيان بطل فيلم "القطع" (2014) من إخراج فاتح أكين ذي الأصول التركية.
يرصد الفيلم صعود نجومية شارل أزنافور منذ خمسينيات القرن الماضي، وصولاً إلى عام 2014، مروراً بصداقاته مع عدد من الفنانين، وعلى رأسهم إديت بياف التي اصطحبته معها في جولة فنية في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، وكانت سبباً في انطلاقته الفنية، على الرغم من عدم تحمس صنّاع الموسيقى الفرنسيين لصوت أزنافور في بداياته، فرأوه قصير القامة ودميماً، ولا يتناسب مظهره الضئيل مع أغانيه الرومانسية التي يكتبها ويؤدّيها تمثيلياً؛ أسلوب اكتسبه من عمله المبكر على مسارح فرنسا الفقيرة وملاهيها.
يبدأ الفيلم، الذي جاء إطلاقه في الذكرى المئوية لولادة النجم الفرنسي، بداية تقليدية تشبه التقليب في صفحات كتاب، إلّا أنّ الأداء اللافت لطاهر رحيم، الممثل الكاريزمي القادم من فيلم "نبي" (2009) للمخرج جاك أوديار، والمرشح لنيل العديد من الجوائز عن فيلميه "الموريتاني" (2021) إخراج كيفين ماكدونالد، و"نابليون" (2023) للمخرج ريدلي سكوت، أنقذ العمل من الوقوع في الرتابة والتمجيد الأعمى، وأكد من جديد موهبة رحيم ذي الأصول الجزائرية.
ولد أزنافور في باريس عام 1924 باسمه الأرمني شاه نور فاغيناغ أزنافوريان، لوالدين من الأرمن، فرّا من الإبادة الجماعية في بلدهما، لبدء حياة جديدة في العاصمة الفرنسية. ترك الطفل المدرسة في سن التاسعة ليبدأ الغناء والتمثيل، وكان لأسرته الفضل في ذلك، فقد كان والده يحب الغناء الأرمني التقليدي، وأحياناً ما كان يسمح لنفسه بالتجرُّؤ والغناء لرواد المطعم الذي امتلكه، فيما كانت الأم خياطة تهوى التمثيل، وقد شجّعا ابنهما الموهوب على دخول عالم المسرح والغناء منذ سنواته الأولى.
بدأ أزنافور كتابة الأغاني وبيعها لأشهر مطربي فرنسا في الأربعينيات من القرن الماضي، وعلى رأسهم إديت بياف وموريس شوفالييه وشارل ترينيه، وقد شكّل أزنافور مع إيف مونتاند ذي الأصول الإيطالية، والمغني والملحن الفرنسي جيلبير بيكود، الثالوث المقدّس للغناء الفرنسي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن بين هذا الثلاثي، تميز أزنافور بقدرته الساحرة على سد الفجوة بين محبي الموسيقى الكلاسيكية والروك آند رول؛ فما قدمه من أغانٍ، سواء بالكتابة أو الغناء، جعله يتسيّد منطقة شعرية فارقة في تاريخ الأغنية الفرنسية. وقد اعتبره بوب ديلان، من بين أفضل الفنانين الذين شاهدهم على الإطلاق. كما دعاه فرانك سيناترا عام 1993 لتسجيل أغنيته الشهيرة You make me feel so young معه، على غرار إديت بياف التي كانت قد طلبت من أزنافور أن يغني معها "عيناكِ الأكثر زرقة".
كتب أزنافور -وشارك في كتابة- أكثر من ألف أغنية، وسجّل ما يربو على 1200 أغنية، غناها بثماني لغات إلى جوار الفرنسية، من بينها الإنكليزية والإيطالية والإسبانية والأرمنية والألمانية والبرتغالية وحتى الروسية، ما جعل منه أشهر فنان فرنسي خارج بلاده.

كما أصدر أزنافور 91 ألبوماً غنائياً، من بينها 51 باللغة الفرنسية، وباع أكثر من 180 مليون أسطوانة حول العالم، كما شارك بالتمثيل في أكثر من 80 فيلماً سينمائياً وتلفزيونياً، من بينها بطولة فيلم "أطلِق الرصاص على عازف البيانو" لفرانسوا تروفو (1960)، كما شارك في فيلم "الطبل الصفيح" (1979) للمخرج الألماني فولكر شلوندروف. ما حول أزنافور إلى ظاهرة فنية تبنّتها فرنسا بفخر يزداد يوماً بعد يوم، حتى بعد رحيله عام 2018 عن 94 عاماً.

المساهمون