عندما تُسنَد مهمة تحديد ما هو السياسي، في الأغنية، إلى "الاتحاد الأوروبي للبث الإذاعي"، مُعِدُّ مسابقة الأغنية الأوروبية السنوية "يوروفيجن"، منذ تأسيسها عام 1956، وأوروبا في حالة حرب مع ووسيا، لا باردة ولا ساخنة، وإنما فاترة في أوكرانيا؛ فإنه لا يعود مُستغرباً أن تفوز الأخيرة بأفضل أغنية لهذا العام.
اللافت أيضاً، أن أوكرانيا كانت قد فازت بمرتين سابقتين، من دون أن يُستثنى السياسي، عاملاً مباشراً أو مُضمراً، في أيّ منهما. في سنة 2004، استضافت العاصمة الأوكرانية، كييف، دورة المسابقة. استضافةٌ، أثمرت بفوز الدولة المضيفة عن أغنية "رقصات برية" (Wild Dances) للمغنية روسلانا. وإن بصورة غير مباشرة، تُمجّد الأغنية الروح الوطنية في وجه الرياح الجيوسياسية العاتية، عبر لوحة راقصة تُمثّل خطاباً يُسمع كسيفٍ ذي حدين. حدٌّ موجّهٌ إلى المظلة البائدة للاتحاد السوفييتي بعد انهياره والانعتاق منه نهاية القرن الماضي. وحدٌّ يوّجه رسالة تحدٍّ إلى مظلة القرن الجديد، الاتحاد الأوروبي، مفادها أن الهوية الأوكرانية مستقلة.
ثم دورة عام 2017، عندما تربعت أغنية بعنوان 1944 على منصة الفوز. كتبتها وأدّتها المغنية الأوكرانية جامالا Jamala، واسمها الكامل سوزانا أليميفنا جمالادينوفا (Susana Alimivna Jamaladinova). حكت من خلالها عن مصير المجموعة الإثنية التتارية التي عاشت في شبه جزيرة القرم، منذ القرن العاشر. زمانَ الحرب العالمية الثانية، شرع الزعيم السوفييتي، جوزف ستالين في ترحيلهم، وكان عددهم يقارب ربع المليون، بما يُنظر إليه اليوم كواحدة من فظاعات القرن العشرين.
روسيا كانت قد اعتبرت الأغنية استفزازاً لها، وبمثابة رد فعل إزاء عمليتها العسكرية السرية سنة 2014، التي ضمت بموجبها إليها شبه جزيرة القرم، ما حدا بـ "الاتحاد الأوروبي للبث"، عندئذ، إلى إصدار بيان، نفى به أن تكون 1944 ذات مضمون سياسي. في حين وجهت جامالا، عند تسلمها الجائزة، كلمة تجنبت فيها توجيه رسائل سياسية، واكتفت بإعلاء شأن القيم الإنسانية من سلام وحب.
هكذا، أتت دورة العام الحالي الأسبوع الماضي، لتمنح أوكرانيا فوزاً ثالثاً، وتمنع روسيا من المشاركة للمرة الثانية. مع استمرار سعير المعارك شرق القارة، ومشاعر التضامن على امتدادها مع الشعب الأوكراني، لم يشك أحد بأنه سيكون لفرقة كالوش أوركسترا، التي سبق لها وأن مثلت كييف في دورة العام السابق، الحظ الأوفر في التتويج.
عند مستهل الأغنية التي قدمتها الفرقة بعنوان "ستيفانيا" (Stefania)، تصدح جوقة رجالية على مستوى صوتي مرتفع، تنشد غناءً شعبياً محلياً. يتجلى مفعول المقدمة بأنها لا تُمثّل الموروث الأوكراني فقط، وإنما تلمس أيضاً في تقاطعاتها الإثنو-موسيقية الأذن الأوروبية الجمعية، لجهة شرق القارة ووسطها، حيث يلعب النظام الموسيقي المقامي دوراً بارزاً في التقليد الغنائي واللحني. أضف إلى ذلك، طبيعة المقام المُستخدم، ألا وهو الهيبودوريان، نسبة إلى الأنماط الإغريقية، الذي يُطابق في أبعاده السلم المعدل الصغير، وعليه يغلب الطابع الموسيقي لغرب القارة.
ثم إن الجوق الجماعي، وعلى الأخص الرجالي منه، له خاصية تعبوية تنسجم مع عُبوة الأغنية. الأصوات متحدة، تُنشد في طباق نغمة واحدة، من دون نسيج انسجامي (هارموني)، يُمدد الزخم ويبدد الطاقة. تعلو الحناجر كما لو أنها تشحذ الهمم وتحشد للقتال. ليس على مستوى البلاد وحسب، وإنما أيضاً عموم الجمهور الغربي، الذي اصطف بغالبه إلى جانب الأوكرانيين، ولسوف يصوت نهايةَ المسابقة، ضمن أحد أوسع وأعقد نظم الاقتراع الذي خصصته إدارة "يوروفيجن" من أجل المسابقة.
بعامل المفاجأة، تنتقل الأغنية من الفلكلور إلى الراب. نقلة تُحفّز الجمهور وتعزز من المفعول التعبوي. لطالما عكس الهيب هوب والراب ثقافة احتجاجية، عن طريق خطاب عالي النبرة، هدفه تمثيل المعاناة لدى الفئة المُهمّشة أو المستضعفة، ومواجهة عنف القوة بعنف الكلمة. يُشبه نمط الراب المستخدم في الأغنية، من حيث سرعته وكثافته وإشباعه النصّي، ذلك الذي درج في بداية التسعينيات. المقطع المُغنّى يذكّر بأغنية "فردوس العصابات" (Gangsters Paradise)، من إصدار سنة 1995. عند ملاحظة آلة الجرس الإيقاعية القابعة في خلفية فقرة الراب، تخطر على الأذن أغنية "القوة" (The Power) لفرقة الراب الألمانية Snap! إصدار سنة 1990. أغنية تبدأ بمقطع صوتي إذاعي، يعود إلى الحقبة السوفييتية، مُلبّداً أجواء نهاية الثمانينيات بذكرى الحرب الباردة.
تُعيد أوركسترا كالوش وتكرر نشيد المقدمة باستمرار، تخترقه فواصل الراب، إما بصورة مُباغتة، أو من خلال قنطرة بنكهة الجاز، ترسمها آلة نفخ شعبية تشبه الناي. الأثر من ذلك مُتعمد ومدروس؛ هو أن تخلق الأغنية بفعل التكرار ما يُطلق عليه "دودة الأذن"، وما يُعرف علمياً بـ INMI، اختصاراً لعبارة "صورية موسيقية لا إرادية"، حيث يستمر سماع اللحن داخلياً في الدماغ، والجملة العصبية بشكل وسواسي، حتى بعد انقضاء مدة الاستماع إليها.
على الرغم من أن أعضاء فرقة "كالوش أوركسترا"، قد جهدوا في مدّ أغنيتهم بكل أسباب النجاح التي في جعبتهم الفنية، يبقى السؤال ما إن كان للأغنية أن تتوج بالفوز لولا الحرب؟ في عالم المسابقات وعروض البث الحي، ليس من السهل التكهّن، وإن بدت الأغنية للأذن النقدية شديدة التسطيح، تعتمد في أثرها على الشحن الحسي والتكرار اللحني، أكثر منه على التأليف الموسيقي والصدم الشعوري، أو الطرب.
الأكثر وضوحاً إنما هو، أولاً، مدى حضور السياسي في "يوروفيجن". وذلك أمرٌ لم يعد يخفى على أي متابع لنشأة وتاريخ المسابقة. ثانياً، هو مدى القيمة الجيوسياسية والثقافية التي ما زالت تلعبها أوكرانيا في تاريخ الصراع بين غرب القارة الأوروبية وشرقها، الذي تعتبره روسيا مجال نفوذ تاريخي "يوراسي" لها. إن فوز "ستيفانيا"، من دون شك رسالة سياسية في أجواء حرب المرويات بين المحاور الإمبريالية القديمة والجديدة. أما الأغنية بحد ذاتها، فلعلها صرخة وطنية، تتطلع إلى انعتاق الشعب من الشرق ومن الغرب.