مروان منصور... تأريخ موسيقي في عيادة الطبيب

08 أكتوبر 2023
مروان منصور (يساراً) مع عبّاس البليدي (العربي الجديد)
+ الخط -

اتسمت كتابات المؤرخ الموسيقي السوري، مروان منصور، بقدر عال من التدقيق، وفصل واضح بين ما هو "معلوماتي" وما هو "تحليلي". في أوائل السبعينيات، كان يُلقي آذانه إلى راديو القاهرة، مترقباً الحفل الشهري لأم كلثوم، يراوده حلم كبير وأمل ضخم في حضور واحد من هذه المحافل، ولكن أم كلثوم رحلت عن الدنيا قبل أن يتمكن من تحقيق حلمه.

كان صوت كوكب الشرق أول باب يدخل منه إلى عالم الغناء والموسيقى، والاهتمام بكل أهل الطرب في القرن العشرين من مغنين وملحنين ومؤلفين. لكن أكبر ما يلفت الانتباه في رحلة منصور مع أهل الفن، يتمثل في استطاعته أن يجمع بنجاح وتوازن مدهش، بين ميدان الطب وبين ميدان التأريخ الموسيقي، وأن يقيم علاقات مباشرة مع كثير من أهل الطرب في مصر، ليكونوا بأشخاصهم من أهم مصادر كتاباته التوثيقية. وفي الحديث إلى "العربي الجديد"، يكشف منصور عن أهم المحطات في رحلته مع التأريخ الغنائي والموسيقي.

يروي منصور قصة خطواته الأولى في طريق الفن، قائلاً: "انتسبت إلى كلية الطب في جامعة دمشق، في السبعينيات، وبدأت بجمع كل أغنيات أم كلثوم، وصُدمت في رحيلها في 3 فبراير/ شباط عام 1975. وبعد رحيلها بعشرة أشهر، توفيت صديقتها وزميلتها مطربة القطرين، فتحية أحمد، وتحديداً في 5 ديسمبر/ كانون الأول 1975، ولم أكن قد سمعت باسمها من قبل، ولكن شاءت المصادفة أن يقع بين يدي أحد أعداد مجلة "الشبكة" اللبنانية، الصادر في أواسط شهر ديسمبر من ذلك العام، وتضمن العدد مقالة قيّمة من ثلاث صفحات بقلم رئيس التحرير جورج إبراهيم الخوري، تحت عنوان "ماتت فتحية أحمد".

قرأت المقالة أكثر من مرة، وما زلت محتفظاً بها إلى يومنا هذا. ورحت أبحث في الأسواق القديمة عن شرائط لفتحية أحمد حتى عثرت على ثلاثة أشرطة كاسيت تحمل بعضاً من أغنياتها، من بينها قصيدة ابن زيدون "أضحى التنائي بديلاً من تدانينا" تلحين زكريا أحمد. ولا أخفي أنه منذ ذلك الوقت، أضحت فتحية أحمد مطربتي المفضلة بعد أم كلثوم".

حتى هذا التوقيت، كان اهتمام منصور بتسجيلات أم كلثوم وفتحية أحمد مجرد هواية لشاب "سميع"، لكن بعد نحو عامين، تقدم خطوات في رحلته مع التوثيق، يقول موضحاً: "في إحدى أمسيات شهر ديسمبر/ كانون الأول عام 1977، كنت أقلب مؤشر الراديو؛ فاستهوى سمعي صوت رقيق يقول: "صديقي المستمع، أهلاً ومرحباً بك في هذه الحلقة الجديدة من سهرة ألحان زمان التي نحتفل فيها بذكرى مرور عامين على غياب صاحبة الصوت القوي القادر والأداء المحكم الأخاذ مطربة القطرين فتحية أحمد". تابعت السهرة حتى نهايتها، وأدركت أنها برنامج أسبوعي من إعداد المؤرخ الموسيقي محمود كامل، وتقديم الإذاعية هالة الحديدي. صرت أتابع حلقات البرنامج مساء كل يوم اثنين، وأسجل بعضها على جهاز الراديو كاسيت".
 
كان برنامج "ألحان زمان" يقدم باقة من التسجيلات النادرة وبعض المعلومات الشخصية والفنية التي تخص الفنانين والشعراء المصريين والعرب عموماً. ازداد شغف مروان منصور بالتوثيق، وأصبح يتطلع إلى المزيد من هذه المعلومات، سواء عن طريق برامج الراديو والتلفزيون، أو بواسطة الصحف والمجلات الفنية المنتشرة في ذلك الوقت.

يقول: "حرصت على الاحتفاظ بهذه الصحف والمجلات، وعلى اقتناء أكبر عدد ممكن من الشرائط والأسطوانات القديمة، التي شكّلت مع الوقت أرشيفاً ضخماً، ضاقت عن استيعابه مكتبتي الموسيقية، ما اضطرني إلى تفصيل مكتبتين أخريين لدى أحد نجاري الموبيليا". يتابع: "وفي عام 1978، وكنت لا أزال طالباً في كلية الطب، قرأت في إحدى المجلات الفنية أن محمد عبد الوهاب يمضي جانباً من فصل الصيف في فندق بلودان الكبير بمصيف بلودان بسورية. توجهت إلى الفندق وانتظرت في الاستقبال حتى أطل عبد الوهاب، فاقتربت منه وعرّفته بنفسي وسلّمت عليه واستأذنته في التقاط صورة فوتوغرافية معه، فوافق".

في عام 1980 تخرج مروان منصور في كلية الطب بجامعة دمشق، ثم تابع الاختصاص في التوليد وأمراض النساء وجراحتها، ليسافر بعدها إلى فرنسا للحصول على دبلوم الجراحة النسائية التنظيرية من جامعة "كلرمون فران" عام 1988. ولعل هذه الفترة من حياة منصور، هي الأكثر انشغالاً بالدراسة الطبية عن عالم الغناء والموسيقى، لكن بعد العودة من فرنسا عام 1989، تذكر منصور برنامج "ألحان زمان"، ثم جال بخاطره أن يوجه رسالة خطية إلى المؤرخ الموسيقي محمود كامل، معد البرنامج، ويروي: "أمسكت بالورق والقلم، ولما كنت أجهل عنوانه، وجهت الرسالة إلى دار الإذاعة المصرية. وبالفعل، استلم كامل الرسالة وأجابني بخطاب لطيف، ثم تتابعت الرسائل بيننا إلى أن قال في إحداها: لماذا لا تركب الطائرة وتأتي إلى مصر فأتعرف بك وأعرفك على من هم على قيد الحياة من الفنانين والشعراء؟".

استجاب منصور إلى دعوة محمود كامل، وجاء إلى مصر عام 1993. وفي تلك الرحلة التي استغرقت ثلاثة أسابيع، اصطحبه كامل في زيارة إلى المطرب عباس البليدي، ثم زيارة إلى المطربة لور دكاش في منزلها بمنطقة مصر الجديدة، وزيارة إلى المطرب والملحن جلال حرب بالإسكندرية، وسهل له إجراء أحاديث تليفونية مع كل من المطربتين الشهيرتين ليلى مراد ورجاء عبده.

وخلال هذه الزيارة، سأل منصور إن كان محمود كامل قد مارس التلحين أو العزف على آلة موسيقية، فأجابه قائلاً: "كنت أنسج الألحان خلال عقد الأربعينيات، وغنّى ألحاني عدد من نجوم الغناء، أمثال الشيخ أحمد إدريس، وآمال حسين، وبرلنتي حسن، وفاطمة علي، وسوسن فؤاد، لكني توقفت عن التلحين، واتجهت إلى التأريخ الموسيقي لأملأ فراغاً في المكتبة العربية، إذ إن هناك مئات من الملحنين في مصر والوطن العربي، أما المؤرخون الموسيقيون فعددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة". وقد كانت هذه الكلمات أكبر مشجع لمنصور على التوجه إلى التأريخ الموسيقي. كانت نقطة البداية الحقيقية.

تكررت رحلات منصور الفنية إلى مصر بين عامي 1993 و2008. وفي كل رحلة، كان يزور مجموعة جديدة من الفنانين والشعراء، ويلتقط معهم الصور التذكارية، ويسجل جانباً من مشوارهم الفني. يوضح: "زرت المطربة فايدة كامل، والمطربة شهرزاد، والشاعر الغنائي إمام الصفطاوي، والملحن إبراهيم رجب، والمطرب أحمد سامي، والمايسترو عطية شرارة، والفنان محمد نوح، وعازف الكمان عبده داغر، وآخرين".

على مدار عقود، عكف مروان منصور على إعداد موسوعة غنائية ضخمة تقع في قرابة ثلاثة آلاف صفحة من القطع الكبير، تحت عنوان "موسوعة الغناء العربي في القرن العشرين"، تضم نحو ألف اسم من الفنانين المطربين والمطربات والملحنين والشعراء الغنائيين والعازفين والمنشدين من أقطار الوطن العربي كافة. ولكن، مع تحول الجماهير إلى القراءة الإلكترونية، آثرت دار النشر تجزئة الموسوعة إلى كتب تصدر تباعاً.

يوضح منصور: "صدر أول جزء من الموسوعة في عام 2018 وكان بعنوان "مطربات ملحنات"، وهو كتاب من 300 صفحة من القطع الكبير، يتناول السيرة الذاتية والفنية لأربع من فناناتنا، يجمع بينهن قاسم مشترك هو الغناء المتقن والتلحين على مستوى رفيع، وهن: مطربة القطرين فتحية أحمد، ومطربة العواطف ملك، وأميرة الطرب نادرة، والفنانة الموسيقية لور دكاش التي جمعتني بها صداقة قوية امتدت على مدى اثنتي عشرة سنة، منذ عام 1993 وحتى رحيلها في الحادي عشر من شهر أكتوبر/ تشرين الأول عام 2005".

وعن قدرته على الجمع بين مجالين مختلفين، يقول منصور: "لم يصرفني التأريخ الموسيقي عن عملي الأساسي، طبيباً للتوليد وأمراض النساء، بل كانت باكورة مطبوعاتي كتاب طبي بعنوان "التشخيص بالأمواج فوق الصوتية في التوليد والنسائية"، ما أهّلني للحصول على جائزة الدولة للبحوث العلمية الصحية من وزارة الصحة السورية، عام 1998، كما نلت جائزة السفارة الفرنسية بدمشق للبحث العلمي عام 2001. كما أن الطب لم يؤثر على اهتمامي بالتأريخ للمطربين والمطربات، وقريباً يصدر كتابي الجديد "عباس البليدي وعصر من الطرب"، الذي يقع في نحو 200 صفحة من القطع الكبير".

يعتز مروان منصور بأرشيفه الضخم من التسجيلات، لا سيما النادر منها، ويرى أنه كلما زادت التسجيلات التي تصلنا لصوت ما، كلما اتضحت رؤيتنا وتعمّق فهمنا لما أضافه صاحب هذا الصوت إلى عالم الغناء والموسيقى. ويتذكر أن رياض السنباطي، أجرى عام 1977 حواراً مع مجلة فنية لبنانية، وسئل عن أهم الأصوات التي تعامل معها، فتوقف عند ثلاثة: أم كلثوم، وفتحية أحمد، وأسمهان.

ومن ألحانه للأخيرة قصيدة "حديث عينين" (ومطلعها: يا لعينيكِ ويا ليْ، من تسابيح خيالي) للشاعر أحمد فتحي، وسُجلت لحساب هيئة الإذاعة البريطانية، ولم يكن تسجيلها متوفراً في ذلك الوقت، وقد أبدى السنباطي من خلال اللقاء رغبته في سماع هذه القصيدة. يضيف منصور: "ولما كنت أحتفظ بتسجيل للقصيدة، فقد أرسلت نسخة منها إلى عنوان السنباطي في القاهرة، وكان سروره بها كبيراً لدرجة أنه كتب لي رسالة بخط يده موجهة لي شخصياً، ما زلت أحتفظ بها ضمن أعز مقتنياتي".

المساهمون