مذبحة رابعة... التعليمات الأمنية تحكم النشر

14 اغسطس 2021
وثّق صحافيون المذبحة وما بعدها لكنهم منعوا من النشر (العربي الجديد)
+ الخط -

في صبيحة اليوم التالي لمذبحة رابعة العدوية، في الرابع عشر من أغسطس/آب 2013، كان التوتر والاضطراب يسودان أغلب غرف أخبار الصحف المصرية. توترٌ ليس له علاقة مباشرة بمضمون النشر ومحتواه وخاصة في الصفحة الأولى من العدد التي تعتليها البيانات والتصريحات الرسمية، لكنه توتر مرهون بالإجابة على سؤال "ماذا بعد؟".

تروي "ه.ح"، وهي مصورة صحافية في واحدة من الصحف المصرية الخاصة، ذكرياتها مع هذا اليوم. وتقول لـ"العربي الجديد": "في الاجتماع الصباحي، لم يكن هناك خطة عمل واضحة، فقط طُلب مني أن أذهب إلى ميدان رابعة العدوية لتغطية آثار الفض، وقيل لي إن زميلين صحافيين سيرافقاني في هذه المهمة". في الطريق إلى الميدان، دار حوار بين الزملاء الثلاثة عن نوع التغطية والتكليفات المطلوبة، ووافق ثلاثتهم على رصد ما يدور حولهم وتدوين الملاحظات، والتحدث مع المتواجدين في الميدان، والتقاط صور وفيديوهات، وإنجاز كافة المهام المطلوبة منهم في مثل تلك الأحداث الدامية، كما اعتادوا على تغطيتها منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وتقديمها للصحيفة.

تجوّل الثلاثة في أنحاء الميدان كافة، من مدخله في طريق النصر وأمام مسجد رابعة العدوية الشهير، مرورًا بالشوارع الجانبية المحيطة به، وصولًا إلى مسجد الإيمان الذي يبعد عنه كيلومترات قليلة. رصدوا، وصوروا حطام الخيام وأشلاء المعركة والدماء المنتشرة في كل مكان. صعدوا إلى الطوابق العليا في مسجد ومستشفى رابعة العدوية، وتحدثوا مع أهالي الضحايا والمصابين وبعض الأطباء المتواجدين هناك. وفي مسجد الإيمان، حيث كانت رائحة الموت تفوح في كل مكان وأكوام الثلج تذوب على جثث القتلى، بقي الزملاء الثلاثة لساعات يرصدون كشوف القتلى المعلقة على جدران المسجد التي تحمل أسماء الجثث الموجودة في الداخل، للتسهيل على الأهالي للتعرف على أماكن وجود ذويهم واستلام جثامينهم بدلًا من مشقة الكشف بين الجثامين نفسها.

كان الزملاء يتحدثون مع لجان حصر القتلى والمصابين الموفدين من منظمات مجتمع مدني وأهالٍ، والتي أصدرت تقارير لاحقًا بعدد ضحايا المذبحة في مقابل الرواية الأمنية، وقد تبين لاحقًا وجود فارق كبير في أعداد حصر القتلى بين الروايات الرسمية وغير الرسمية، واعتمدت أغلب المنظمات الدولية على الأرقام غير الرسمية في توثيقها للمذبحة. وتبدأ من 333 قتيلًا بينهم 247 حالة معلومة و52 حالة مجهولة، و7 حالات من الشرطة، بحسب التقديرات الحكومية المصرية الصادرة عن وزارة الصحة ومصلحة الطب الشرعي، وتصل في بعض التقديرات الحقوقية المصرية إلى 2200 حالة بحسب آخر إحصاء صادر عن مستشفى رابعة العدوية الميداني، بينما يرتفع العدد قليلًا إلى 2600 قتيلً بحسب ما أعلنته "جماعة الإخوان المسلمين"، آنذاك. بينما ذكرت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، في تقريرها الصادر في 12 أغسطس/آب 2014، أن عدد الضحايا هو 1150 قتيلاً، قبل أن ينخفض العدد في التقرير الصادر عن المنظمة نفسها، في 14 أغسطس/آب 2015، إلى 817 حالة.

ظلّ الزملاء الثلاثة يرصدون نداءات مكبرات الصوت المنبعثة من سيارات نصف نقل تجول في الشوارع بحثًا عن مختفين، حيث كانوا يلتزمون الصمت التام مع كل من حولهم؛ عل أحدهم يهتدي لمن يبحث عنه. ومنهم مختفون حتى كتابة تلك السطور، فالمعلومة الأخيرة عن المختفين قسريًا منذ فض الاعتصام وما تلاه بأيام قلائل، هي أن عددهم 21 مختفيا قسريًا، وفق توثيق منصة "جوار" الحقوقية.

تقارير عربية
التحديثات الحية

أرسل الصحافيون الثلاثة صورًا وتقارير صحافية بكل تلك المضامين التي وثقوها إلى صحيفتهم، من خلال هواتفهم المحمولة وأجهزة الكمبيوتر النقالة في حوزتهم لضمان النشر في الطبعة الأولى من الصحيفة، قبل الثالثة عصرًا. وأكملوا جولتهم يرصدون ويصورون كل ما تقع أعينهم عليه، ويتحدثون مع كل شاهد وكل راوٍ وكل من له ضحية.

في صباح اليوم التالي؛ لم تنشر الصحيفة صورة واحدة ولا سطرًا واحدًا من كل ما أرسلوه.

"كنا نتوقع ذلك بالفعل"، تقول "ه.ح". وتضيف: "أنا مصورة أبني أرشيفي الخاص، باختلاف الأماكن التي أعمل فيها. دائمًا أحرص على توثيق تلك الأحداث الجسيمة. أنا مؤمنة بأن صورنا وعملنا الصحافي هي التي ستسطر التاريخ يومًا ما". وتؤكد أنه بالرغم من أن صحيفتها لم تنشر لها صورة واحدة، لكن وكالات أنباء عالمية نشرت لها ولغيرها من المصورين الصحافيين صورًا عدة سواء يوم الفض أو ما تلاه من أحداث.

تروي المصورة أنها اكتشفت بعد ذلك أن هذا هو حال أغلب الصحف، حسبما قال زملاؤها في وسائل إعلام مختلفة، التقت بهم لاحقًا في تغطيات صحافية لتوابع الفض: "نشروا صورا وتقارير على هواهم وحسب التعليمات الأمنية التي أمليت على الجميع، وطبقًا للسقف المسموح به". تيقنت المصورة الصحافية من خلال متابعتها اليومية لما ينشر، أن الصحف ووسائل الإعلام لا ترغب في تغطيات ميدانية، ولا قصص إنسانية، ولا حتى تقارير رصدية تحمل ملاحظات أو مشاهدات، بل "ركزوا فقط على تلك التقارير التي ارتكزت على تغطية أحداث العنف والشغب التي لحقت بالمذبحة، من حرق كنائس وتفجيرات في سيناء، وتقارير سياسية تنقل تصريحات من أعضاء جبهة الإنقاذ، وتقارير أمنية عن ملاحقات قيادات جماعة الإخوان المسلمين، وغيرها من التقارير المكتبية".

أما التغطية الميدانية اللاحقة، فكانت يوم افتتاح ميدان رابعة العدوية، بعد غلقه تمامًا أمام حركة المرور لما يقرب من شهرين على الفض. تقول "ه.ح" إنّ اليوم التالي للمذبحة، وعلى الرغم من بشاعته وثقله على نفسها، لكنه كان أهون عليها من تغطية ذلك اليوم الذي كلفت فيه بتصوير أعمال تجميل وتطوير ميدان رابعة العدوية بعد إعادة افتتاحه. وتضيف المصورة الصحافية "بكيت في هذا اليوم بمجرد دخولي الميدان. طُمست ملامحه بألوان دهان مزيفة على الأرصفة والطرق. ومسجد رابعة العدوية نفسه غاب رونقه ولونه الأصلي بطلاء أبيض بلا ذوق أو فن يحاكي تاريخه المعماري والأثري. شعرت أن طمس الميدان هو نوع من محو التاريخ وإهدار حقوق الضحايا، وإيهام العالم بأن شيئاً لم يحدث على الإطلاق. لكنّ صوري بقيت شاهدة على ما جرى".

المساهمون