مدينة حلب... أوّل الغناء ومنتهاه

16 ديسمبر 2024
الشيخ عمر البطش في بورتريه لعماد حجاج (العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تاريخ حلب الموسيقي: في العهد الأموي، كانت حلب مركزًا للفن والغناء، متأثرة بالموسيقى العثمانية، مما جعلها مركزًا للتبادل الثقافي بين العرب والأتراك، مع اهتمام خاص بالموشحات والأدوار والقصائد.

- أعلام الموسيقى في حلب: برزت شخصيات مثل الشيخ محمد أبو الوفا الرفاعي والشيخ مصطفى الحريري والشيخ عمر البطش، الذين ساهموا في تطوير الموسيقى وتوجيه الأجيال الجديدة مثل صباح فخري.

- التراث الموسيقي الحلبي: يجمع بين الطابع الديني والدنيوي، حيث تُغنى الموشحات والقدود في المناسبات، مما يجمع بين الشعر والموسيقى في تناغم رائع، وحافظ أهل حلب على هذا التراث وسعوا إلى تطويره.

يروي ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار أن خالد بن يزيد كان نازلاً على الهيثم التنوخي، فبعث إلى ضيف بدوي من قبيلة عذرة، فقال: "كنت في حلب فرأيت أناساً يقبلون ويدبرون، عليهم ثياب بألوان الزهر، ثمَ جاء رجل فأدخلني داراً واسعة، فيها فرش ممهدة... وفجأة هجم أربعة شياطين استخرجوا من جعبهم دواب لا أعرفها راحت تصدر أصواتاً مطربة، وقام أحدهم يلبط الأرض ويثب، فقال صاحبي: هذه آلات موسيقية وهذا يرقص على النغم. ثمَ أقبل شاب واستخرج خشبة شدّ عليها أوتاراً وعرك آذانها وحركها بمجسة فنطقت فإذا هي أحسن قينة، وغنَى عليها فاستخفني الطرب، فسألت ما هذه.. إنها غير معروفة عندنا في البادية؟ فقال صاحبي: يا أعرابي، هذا هو البربط، آلة موسيقية، وهذا الخيط في الأسفل هو الزير، والذي يليه هو المثنى، والثالث هو المثلث، والرابع اسمه البم".

كان هذا في العهد الأموي، فمدينة حلب ضربت مع الفن والغناء موعداً قديماً، وفاضت أخبارها مع الموسيقى، فتناثرت في بطون الكتب الأمهات، وتواترت بكثرة تملأ المجلدات. وكما في الزراعة، حيث لا تثمر نبتة معينة إلا في بيئة مناسبة، فإن حلب كانت الأرض الخصبة الصالحة لغرس كثير من أجود أنواع الغناء وأرقاه، كأن أحجارها القديمة، تنصت فتحفظ، ثم تختزن ما حفظته، وتراكمه عبر الزمن، ليفيض على الأجيال المتعاقبة، في رواية متصلة الإسناد لا انقطاع فيها.

جعلت مدينة حلب من الصناعة والتجارة طلاء خارجياً وغلافاً ظاهرياً، يظنه المتعجل كل شيء، لكنها ادخرت للمتمهل والمتأمل طبقات من الثقافة والفن، وأكرمت ضيوفها بفتح مستودعات غنائها المتراكم والمستتر في أحجارها وفي أزقتها وفي بيوتها القديمة.

في الدراسات الاجتماعية، يحدثنا التاريخ عن تلك المدن التي وضعتها الجغرافيا في طريق تجاري يربط بين عواصم ودول بيعا وشراء. حلب من هذا النوع، لكن يبدو أنها أيضاً قد وضعت في طريق فني، واختارت موقعاً يسمح لها -وهي المدينة العربية- بأن تنظر من النافذة وتصغي إلى إنتاج العثمانيين من الموسيقى، وأن تكون أحد أهم مواقع التأثير والتأثر بين العرب والأتراك في ميدان النغم والغناء.

ولعل ذلك هو السر في انحياز الحلبيين الدائم إلى الغناء المتقن الصعب المطرب، الذي يحتاج إلى المران والتدريب، واهتمامهم بالموشحات والأدوار والقصائد المرسلة والموقعة، والمواويل بأنواعها. وحتى عندما يذهبون إلى غناء أحدث أو أخف، فإنهم يتخيرون منه قطعاً تحمل طابعاً طربياً، أو تصلح لإمدادها بأداء طربي يمنحها وزناً ودسماً من بعد خفة وهزال.

والحلبيون يغنون، ويستمعون، وبالطبع يتفاوتون في جودة الغناء وحلاوة الصوت. يقول مؤرخ حلب الشيخ كامل الغزي (1853 – 1933) في كتابه المرجعي "نهر الذهب في تاريخ حلب": كان كثير من ذوي الأصوات الحسنة يغنون وهم يسيرون في الشوارع، وقد يكون أحدهم من أماثل الناس وظرفائهم، أما المُغني الذي يحترف الفن ويأخذ الأجر على غنائه، فيعرف عند الحلبيين باسم "ابن الفن".

ومن أبناء الفن هؤلاء الشيخ محمد أبو الوفا الرفاعي (1765 - 1847) الذي تلقى في المدرسة العثمانية العلوم الدينية: التوحيد والفقه والتفسير. والعلوم العربية: النحو والصرف، والمعاني، كما درس علوم الأنغام والأوزان في الزاوية الرفاعية في حي الأكراد حيث كان يسكن.

أخذ الفن عن الشيخ مصطفى الحريري الملقب بالبشنك، وكان يعاونه في الإنشاد بحلقات الأذكار، ويصفه الأب فردينان توتل اليسوعي بأنه "كان عالماً وشاعراً عربياً مجيداً، كما كان مغنياً مطرباً ومنشداً آخذاً بألباب سامعيه، له صوت رخيم جهوري يُسمع عن بعد، يثير العواطف ويستذرف العبرات. ولما كان يخطب أو ينشد أو يقرأ في الجامع الكبير في حلب، كانت الناس تقف صامتة في الأزقة المجاورة فتسمعه كأنها مسحورة".

والبشنك كان نابغة عصره في الموشحات والقدود، وقد افتتح في داره معهداً لتعليم الموسيقى والغناء. وفي سيرته، نطالع أنه لما بلغ السادسة من عمره، لازم الشيخ محمد بن عبد الكريم الشراباتي العالم المحدث، فأخذ عنه القرآن والكتابة والصرف والنحو والفقه، وتلقى وهو ابن 11 عاماً القراءات السبع من عدة شيوخ مشهورين، وتلقى الفن الموسيقي عن الشيخ عبد القادر بن إسكندر المصري، كما أخذخ من منشدي الأذكار، ولما بلغ الـ14 من عمره، ترأس إنشاد الذكر لأبيه في جامع العاشورية الكائن في قلعة الشريف، إذ لم تعد داره تستوعب المريدين وقاصدي حلقة الذكر من كبار العلماء، فكان الناس يأتون لسماع صوته، فذاع صيته وعلت مكانته في عالم الفن، حتى إذا غنى امتلأت الشوارع والميادين والأسطحة بالسامعين من رجال ونساء، وكان رئيساً للمؤذنين في الجامع الأموي الكبير في حلب، الذي كان يغص بالمصلين للاستماع إلى صوته وأذانه البديع. وممن تلقى عنه الفن المنشد السيد أحمد عقيل، والشاعر الشيخ محمد الوراق، والدرويش صالح الذيل مؤذن القصر السلطاني في إسطنبول.

تصرّ حلب على اتصال سلسلة الإبداع، فتقدم لأهلها ولسورية وللعرب جميعاً النابغة الفطري الشيخ عمر البطش، ملحن الموشحات الأعظم في العصر الحديث. استقبل الدنيا عام 1885، ورحل عنها عام 1950، وفي أسطر حياته أنه ساعد أبيه في مهنة "الكلاسة"، ثم عمل مع خاله بكري القصير بَنّاء، وعنه تلقى مبادئ الفن، فقد كان القصير منشداً قديراً ورئيساً لنوبة أذكار صوفية. لكن البطش لم يتفرغ للفن إنتاجاً وتعليماً إلا بعد الثلاثين، إذ انطلق ينسج من بدائع الموشحات ما يبهر ويذهل، وتميزت موشحاته بقوة السبك ومتانة البناء، وهي غاية في الإطراب والإمتاع. وفي ميدان التعليم والتوجيه، صار الرجل قبلة يقصدها كل راغب في تأسيس متين، مقامياً وإيقاعياً، وكان إحساسه الفطري المرهف بالإيقاع أكبر أسباب إتقانة رقص السماح الذي اشتهرت به حلب.

حين بلغ البطش 24 عاماً، ولد الفنان الحلبي الرائد بكري الكردي في إدلب، لكن أباه أتى به صغيراً إلى حلب، ليبدأ بدراسة علوم الدين والإنشاد والقدود والموشحات والمونولوج على يد الأساتذة عبد الحميد الموري وتوفيق الصباغ وعلي الدرويش، وأيضاً وبالطبع على يد عمر البطش. عمل الكردي في إذاعة حلب، ولحن لمطربين كثر. لكن بقي لحنه الأشهر والأنجح جماهيرياً متمثلاً في طقطوقة "ابعت لي جواب"، التي غناها كل مطربي حلب تقريباً، وما زالت تستدعى إلى اليوم.

كان البطش شجرة أثمرت وأينعت وآتت أكلها، ومن ثمراتها الأعلام: صباح فخري، ومحمد خيري، وعبد القادر حجار، وبهجت حسان، ومصطفى ماهر، وصبري مدلل، وغيرهم من الأسماء المؤثرة والكبيرة في عالم الطرب. يقول صباح فخري عن أستاذه: البطش علمنا الموشحات، وعلمنا الإيقاع، وعلمنا رقص السماح الذي هو تعميق للإيقاع، وتأكيد له داخل النفس.. كان متمكناً من الأوزان الطويلة والمركبة.

وفي كتاب نهر الذهب، يتحدث الشيخ كامل الغزي عن مدينته فيقول: "كانت حلب منبعاً للفنون، خصوصاً فن الموسيقى والغناء، الذي تفنن أهله في إجادته وإتقانه، حتى غدت المدينة مضرب المثل فيه. ومن أعظم ما اشتهرت به الموشحات والقدود، التي كانت تُغنّى في المجالس والمنتديات. وقد اشتهر من أهل حلب كثيرٌ من المغنين والمنشدين الذين حملوا هذا التراث وحفظوه من الاندثار. وكان الغناء يُعدّ من وسائل الترفيه التي تجتمع عليها الطبقات المختلفة في المناسبات الاجتماعية والدينية. كان أهل حلب مولعين بالغناء، يعدّونه من أرقى الفنون، وقد تميزت المدينة بجمعها بين الطابع الديني والطابع الدنيوي في ألحانها. فإلى جانب الأناشيد والموشحات التي تُؤدى في حلقات الذكر، كان هناك الغناء الدنيوي الذي يحمل طابعاً رقيقاً ومهذباً. وقد حافظ أهل حلب على هذا الفن وسعوا إلى تطويره، حتى أصبح لهم طابع خاص يمتاز بالجزالة والرقة. ولا تزال آثار هذا التراث باقية في الموشحات الحلبية والقدود، التي تُعدّ من مفاخر الموسيقى العربية".

يواصل الغزي: "اشتهر في حلب من المغنين والمنشدين عدد كبير ممن بلغوا الغاية في الإجادة، وكانوا يتناقلون الألحان بدقة وعنايةمحافظين على الأسلوب الحلبي الذي يمتاز بالعمق والإحساس. ولم تكن مجالس الطرب قاصرة على اللهو، بل كانت مجالاً للأدب والتأمل، حيث يُجمع بين الشعر والموسيقى في صورة متناغمة. ولعل الموشحات الحلبية هي أروع ما جادت به قريحة أهل المدينة، بما تحمله من تنوع في الألحان وجمال في الكلمات، فكانت زينة المجالس وموضع إعجاب كل من سمعها".

في الأحداث الأخيرة التي شهدتها سورية، كانت حلب هي البداية والمنطلق، وكانت دمشق، حيث سقط النظام، هي النهاية والختام.. قد يصح هذا في السياسة، لكن في الغناء والموسيقى يختلف الأمر، فمن حلب المبدأ وإليها المنتهى.

المساهمون