لأسباب كثيرة، لم تحظ مناسبة بلوغ الفنان المصري محمد منير سن السبعين بالاهتمام اللائق، فقد تحالفت الأحداث التي تمر فيها المنطقة مع الظروف الصحية التي يمر بها الرجل لتمنع الاحتفاء به. هو نفسه اعتذر عن تكريم مهرجان الموسيقى العربية في القاهرة، الذي اختتم فعالياته الخميس الماضي، بسبب حالته الصحية، لكن من المؤكد أن بلوغ منير عامه السبعين يمثل فرصة مهمة لتأمل مسيرته عبر نظرة كلية لا تستغرق في تفاصيل عمل أو أكثر من أعماله الغنائية التي التف حولها ملايين الشباب في مصر والعالم العربي، وشكلت جزءاً مهماً من وجدانهم وذكرياتهم.
منذ انطلاقته الأولى أواخر السبعينيات، بدا منير صاحب مشروع غنائي يغاير كل ما هو سائد، سواء في النص أو اللحن أو الغناء، وحتى لغة الجسد واختيار الملابس. لم تكن العقود الأربعة التالية إلا تأكيداً لمعالم هذا المشروع، الذي اشترك في تدشينه عدد من الأسماء المؤثرة. ورغم كل التطورات التي طاولت المشروع، إلا أن خيطاً امتد عبر الزمن منح أعمال منير هوية واضحة، فكان الزمن دليلاً على امتلاكه رؤية مبكرة ومشروعاً غنائياً بالغ التميز.
حين صدر الألبوم الأول لمنير، "علموني عنيكي" (1977)، كانت مصر والمنطقة تعيش مرحلة تحولات كبيرة سياسية واقتصادية يرى كثيرون أنها انعكست على مجمل الإنتاج الفني. لكن من أهم ما ميز انطلاقة منير الأولى أنها جاءت في ما يُعرف بحقبة الكاسيت"، إذ كان هذا الوسيط قد انتصر على كل الوسائط المغايرة نصراً كبيراً، وكان المطرب الشعبي أحمد عدوية هو أبرز تجليات هذا الانتصار، رغم ارتفاع أصوات المنتقدين وعلو مكانتهم الفنية والأدبية.
أصبح شريط الكاسيت وسيلةَ نشر الفن الغنائي، بكل أشكاله ومستوياته، من أم كلثوم وعبد الوهاب، إلى محرم فؤاد وعفاف راضي، وصولاً إلى الفرق الجماعية بأنماطها المختلفة. كان الكاسيت قد أنتج قيمه الخاصة في الانتقاء والفرز، وهي قيم تختلف تماماً عن قيم الإذاعة وتقاليدها ودورها المركزي. صار "الإنتاج الفني" متاحاً لمن يقدر ويرغب، مع احتكام شبه كامل إلى قواعد "السوق" والعرض والطلب.
في الألبوم الأول، يظهر شيء من إرهاصات المستقبل. بعض الأغاني تحمل مسحة نوبية، ستترسخ في ما هو قادم. سيطالع من يشتري الشريط أسماء أحمد منيب، وهاني شنودة، الذين تقاسما الألحان، ثم عبد الرحيم منصور الذي صاغ كلمات كل الأغاني إلا واحدة ألفها سيد حجاب. لاحقاً، سيكون لمنيب دور كبير في مسيرة منير. سيستغل الملحن النوبي العريق صوت الفنان الصاعد في مهمة إعادة تعريف المجتمع المصري بالموسيقى النوبية، بعد تهيئتها لتلتقي في موقع قريب من الموسيقى القاهرية المركزية المستساغة في مختلف أنحاء القطر المصري والبلاد العربية.
بالطبع، لم تكن تجربة منير في إيصال الموسيقى النوبية إلى الجماهير القاهرية والدلتاوية هي الأولى، لأن فكرة إعادة إنتاج الموسيقات المحلية لتقديمها في صورة أعم كانت قديمة، وفي النموذج النوبي تحديداً يمكن أن نشير إلى المطرب والعازف علي كوبانا (1929- 2001)، الذي يعتبره كثيرون الأب الروحي للموسيقى النوبية لغزارة إنتاجه وأسبقية ظهوره في المجتمع القاهري، ولتكوينه أول فرقة نوبية احترافية في العاصمة المصرية.
لكن تجربة منير تميزت عن كل التجارب السابقة بتحقيقها مستوى استثنائياً من الانتشار، لا سيما مع صدور ألبومه الثالث "شبابيك"، أو بتعبير الناقدة والمطربة فيروز كراوية: "حقق الاختراق التجاري الأكبر عبر التعاون مع فرقة يحيى خليل وفتحي سلامة وألحان أحمد منيب. كان أول ثمار التحول التدريجي من الفرق الجماعية لمشاريع المطربين الأفراد في نهاية السبعينيات".
حقّق ألبوم "شبابيك" نجاحاً جماهيرياً مدوياً، انتقل به منير من مكانة الباحث عن موقع على الساحة الغنائية إلى مكانة الـ Super Star المؤثر في ملايين الشباب. تضمن الألبوم ثماني أغان، اتصلت كتابة أو تلحيناً بعدد من الأسماء الكبيرة. نصف الأغنيات كانت لعبد الرحيم منصور، لكن "الليلة يا سمرة" وهي أشهر أغنيات الألبوم كتبها فؤاد حداد، و"شبابيك" التي أخذ الألبوم اسمها كتبها مجدي نجيب، وأيضا كتب "يا زماني". أغنية "أشكي لمين" حظيت بلحن لبليغ حمدي، الذي لم يخش يوما من التجريب مع الأصوات الجديدة. مجرد وجود اسمه على غلاف الشريط مثل قيمة كبيرة.
سيلاحظ من يستعيد تلك الذكريات بعد أكثر من أربعين عاماً أن الأغاني الثلاث الأشهر والأوسع جماهيرياً والأبقى زمنياً وهي: "الليلة يا سمرة"، و"شبابيك"، و"شجر الليمون"، كانت كلها من ألحان محمد منيب، أحد أركان مسيرة منير والقوة الدافعة في انطلاقته الأولى. ثم كان التسجيل بمصاحبة فرقة يحيى خليل، أحد أهم رواد موسيقى الجاز في مصر والمنطقة العربية، وأسهم أيضاً بتلحين أغنية "قد وقد"، التي كتبها شوقي حجاب.
لا ريب أن إنتاج شريط كاسيت أوائل الثمانينيات لمطرب واعد من أصول نوبية، يدمج عدداً من العناصر الموسيقية في أعماله، ويتوسط اسمه غلاف الشريط وبجواره أسماء من وزن: فؤاد حداد، ومجدي نجيب، وعبد الرحيم منصور، وبليغ حمدي، وأحمد منيب، ويحيى خليل، وحسين جاسر، مثّل حدثاً موسيقياً وغنائياً تاريخياً، دشن به محمد منير مسيرته التي سيحكمها هذا التفكير الذي يبحث دائماً عن جديد بشرط أن يكون داخل إطار اشترك منير في بنائه مع رفقاء انطلاقته.
بعد عامين، أطلق محمد منير ألبومه الرابع "اتكلمي"، معتمداً على أركان فريقه الأساسي، فكان نصيب عبد الرحيم منصور ستة نصوص من أصل عشرة هي عدد أغاني الألبوم، وحضر فؤاد حداد بأغنية، ومجدي نجيب باثنتين، وتمثلت الإضافة النصية بحضور الشاعر جمال بخيت الذي وضع كلمات أغنية "أم الضفاير".
تلحيناً، ظهر حميد الشاعري في تجربة أولى بأغنية "الطريق"، كما شارك عبد العظيم عويضة بلحن أغنية "الحقيقة والميلاد". وكالعادة، كان نصيب الأسد لأحمد منيب الذي لحن ثماني أغان. وفي التوزيع، ظهرت أسماء عمر خيرت وفتحي سلامة وعزيز الناصر. مع هذا الألبوم، صارت فكرة "المشروع" أوكد وأظهر.
يمكن لمن يرصد مسيرة محمد منير أن يعتبر هذه الألبومات الثلاثة هي الأساس الذي انبنت عليه معالم مشروع منير، الذي استمرت جماهيريته في الاتساع. توالت ألبوماته، ومنها تمثيلاً لا حصراً: "الملك هو الملك" (1986)، و"وسط الدايرة" (1987)، و"يا اسكندرية" (1990)، و"الطول واللون والحرية" (1992)، و"ممكن" (1995)، و"المصير" (1997)، ويتضمن أغنيتين أداهما منير في فيلم "المصير" من إخراج يوسف شاهين، و"في عشق البنات" (2000)، و"أنا قلبي مساكن شعبية" (2001)، و"مدد" (2002)، و"أحمر شفايف" (2003)، و"طعم البيوت" (2008).
وفي كل ألبوم يصدره منير، دائماً كانت هناك أغنية تترك أثرها العميق في ذاكرة الجمهور، وتمثل مرحلة مهمة من مراحل مشروع الرجل. ومن أمثلة هذا النوع من الأغاني: "عطشان يا صبايا"، و"المريلة الكحلي"، و"لو بطلنا نحلم نموت"، و"قلب الوطن مجروح"، و"أنا قلبي برج حمام"، و"قلبي مساكن شعبية"، و"سو يا سو".
استطاع محمد منير أن يبني لنفسه موقعاً فريداً بين جمهور يرى فيه حالة أرقى من معظم المطروح على الساحة الغنائية، تدقيقه في اختيار الكلمات، وطريقته في الأداء، وتعبيراته الجسدية، وحتى اختياره لملابسه التي خلقت له هوية بصرية. وقبل كل هذه العناصر تأتي الاستمرارية التي تؤكد المشروع، وأن الأمر لم يكن أغنية نجحت، ولا ألبوماً حقق مبيعات مرتفعة. يرى جمهور منير أنه يمثل حالة فريدة واستثنائية لا ينبغي أن تقارن بغيرها، وأطلقوا عليه لقب King باعتباره الملك المتوج على الأغنية المصرية المعاصرة.
بمجرد مطالعة أسماء الأغاني في ألبومات منير، يلحظ الباحث تكرار الحديث عن الغربة والاغتراب والسفر والهجرة.. ربما كان لانتقال أسرته الاضطراري من قرية دراو بأسوان إلى القاهرة بسبب أعمال بناء السد العالي دور في هذا الاهتمام بفكرة "الغربة"، لكن فيروز كرواية تلحظ أن منير، و"من خلال مجموعة الشعراء الذين ساندوا تجربته، استطاع أن يخرج بتيمة التغريبة النوبية إلى أفق أوسع يلامس حالة الاغتراب المدينية المرتبطة بمشاعر وجودية عامة".
يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، أدرك محمد منير عامه السبعين. وباحتساب رحلته الفنية بألبومه الأول، يكون الرجل قد قطع مسيرة امتدت 47 عاماً مع الغناء، مع اختيار الكلمة وانتقاء اللحن، مع احترام جمهور واسع جدا، تعامل معه باعتباره زعيم الحزب الغنائي الأكبر والأهم في مصر، الذي لن يتوقف عطاؤه إلا "لو بطلنا نحلم".