محمد عبد الوهاب ... سحر الأوراق القديمة

27 فبراير 2024
يرجّح دياب أن عبد الوهاب وُلد في عام 1902 (Getty)
+ الخط -

ما زالت سيرة محمد عبد الوهاب، ومسيرته الفنية الطويلة، تحظى بكل عوامل الجذب والاهتمام، سواءً لدى الباحثين والدارسين، أو لدى كثير من الجماهير العريضة بامتداد العالم العربي. ومن هنا، تأتي أهمية كتاب "مذكرات محمد عبد الوهاب" الذي أخرجه الصحافي المصري المتخصص في الشأن الفني، محمد دياب، والذي عرف دائماً باهتمامه بالجوانب الأرشيفية والتوثيقية، وتميز دائماً باطلاع واسع على الدوريات الصحافية التي رصدت مسيرة كبار أهل الفن في القرن العشرين.

جاء الكتاب الصادر عن دار المرايا في القاهرة في نحو 200 صفحة، اشتملت على توطئة، تناولت الخطوط العريضة لرحلة حياة محمد عبد الوهاب، كما اشتملت على فصلين، لاستعراض مرحلتين من مذكراته، التي نشرها بقلمه في صحف مصرية؛ الأولى في مجلة الاثنين عام 1938، والثانية في مجلة الكواكب عام 1954. حرص دياب على أن يقتصر عمله في المذكرات على الجمع والترتيب، وتقديمها للقارئ في شكل نص أصلي من دون تدخل تحليلي أو توجيهها لخدمة موقف نقدي أو رفض آخر.

في توطئة الكتاب، قدم دياب ما اعتبره سيرة موثقة ومختصرة لـ محمد عبد الوهاب، اعتمد فيها على عدد من المراجع والشهادات المهمة لمن عاصروا نابغة الفن في سنوات بزوغه الأولى، ومال إلى حسم بعض النقاط الجدلية في المسيرة الوهابية، مثل تاريخ الميلاد، التي رأى المحقق أن عام 1902 يشكل اختياراً دقيقاً وسط عدد كبير من التواريخ التي ذكرتها مصادر أخرى.

أصول محمد عبد الوهاب ترجع إلى مركز أبو كبير في محافظة الشرقية، لكنه ولد في القاهرة، وتحديداً في حي باب الشعرية. قدم الوالد الشيخ عبد الوهاب مع شقيقه محمد أواخر القرن الـ19 للالتحاق بالأزهر الشريف. وفي أثناء الدراسة عمل مؤذناً ومقرئاً في مسجد الشعراني، وعمل الشيخ محمد إماماً وخطيباً للمسجد، وأقاما بجواره في منزل متواضع من منازل الأوقاف، وفيه ولد محمد عبد الوهاب.

يواصل المؤلف استعراض سيرة موسيقار الأجيال، والتحاقه صبياً بالفرق الموسيقية النشطة حينها، مثل فرقة فوزي الجزايرلي، وفرقة عبد الرحمن رشدي، وفرقة عبد القادر حجازي، نجل الشيخ سلامة حجازي، وفرقة سيد درويش، وفرقة علي الكسار، وفرقة نجيب الريحاني، وفرقة منيرة المهدية. كما يرصد بداياته مع شركات الأسطوانات من خلال إصدارين من تراث الشيخ سلامة الحجازي، هما "أتيت فألفيتها ساهرة"، و"ويلاه ما حيلتي"، وكانا من نصيب شركة "جرامافون".

تناول المؤلف جوانب مختلفة من حياة محمد عبد الوهاب الشخصية، مثل زيجاته، أو الأماكن التي سكنها في القاهرة. وكان من المهم أن يرصد المرات السبع التي قدم فيها موسيقار العرب سيرته الذاتية عبر مذكرات منشورة أو لقاءات صحافية أو حوارات إذاعية أو متلفزة، أو كتب عن حياته.

ومن أبرز وقفات عبد الوهاب مع المذكرات، تلك الصيغة الإذاعية التي قدمتها "صوت العرب" خلال شهر رمضان عام 1962، في برنامج بعنوان "حياتي"، إذ كان عبد الوهاب نفسه هو المعلق بصوته على المشاهد التمثيلية الدرامية خلال الحلقات. كما يشير إلى "مذكراته التلفزيونية" التي قدمها ضمن حلقات شهيرة مع الكاتب سعد الدين وهبة، بعنوان "النهر الخالد".

لكن المؤلف يرى أن أهم مذكرات محمد عبد الوهاب على الإطلاق، هي الأولى والثانية، أي الصادرة عام 1938 وعام 1954. جاءت المرة الأولى في 19 حلقة بمجلة الاثنين عام 1938، وهو تاريخ مهم، لعوامل عدة يلخصها المؤلف في تسيّد عبد الوهاب المشهد الغنائي في مصر والعالم العربي، إذ وصفه متعهدو الحفلات بـ"مطرب الملوك"، وخوضه مجال السينما بثلاثة أفلام حققت نجاحاً كبيراً، هي "الوردة البيضاء" عام 1933، و"دموع الحب" عام 1935، و"يحيا الحب" عام 1937. يشير المحقق إلى أن هذا الفيلم الأخير، تقرر إعادة عرضه بعد عام كامل من عرضه الأول، في سابقة كانت هي الأولى، بناء على رغبة الجماهير.

في هذه المذكرات الأولى، لم يسر محمد عبد الوهاب بطريقة الترتيب الزمني، واستعراض ظروف الميلاد والنشأة، ولكنه كان يختار جانباً من حياته الفنية ويتناوله بالسرد والتوضيح. في الحلقة الأولى مثلاً، استعرض ما كان يعانيه من شظف، بعد أن التحق بفرقة سيد درويش مطرباً، وبدأ في بروفات مسرحيتي البروكة وشهر زاد، بسبب الإعراض الجماهيري عن المسرحيات، وضعف الإيراد، والفرق الشاسع بين المقابل الذي حدده له درويش وهو 15 جنيهاً شهرياً، وبين ما قبضه فعلياً، وهو 7 قروش عن 3 أشهر.. كما روى كيف فاته الالتحاق بوظيفة حكومية براتب 8 جنيهات شهرياً، بعد أن غلبه النوم عن موعده المحدد في الصباح.

وهكذا، يسير محمعبد الوهاب في حلقاته لمجلة الاثنين، فيتحدث في الحلقة الثانية عن "مغامرة" لدخول حفل يحييه المطرب الشهير سيد الصفتي وصديقته العالمة المعروفة بمبة كشر، ويروي ما تلقاه من ضرب مبرح، بعد أن اكتشف منظمو الحفل دخوله دون دعوة.. ثم ما أصابه من ضرب وأذى من قبل والده عند عودته للمنزل متأخراً.. ومن أطرف ما يحكيه عبد الوهاب في مذكراته، تفاصيل بداياته الأولى مع فن التلحين، وكيف تاقت نفسه لممارسة هذا الفن عام 1916، وقد عرف في هذه الوقت أن أحداً من المشهورين بكتابة الطقاطيق لن يقبل أن يمنح إحدى أغنياته لصبي صغير ليس له أي حظ من الشهرة.

وبالمصادفة، وقعت في يديه نسخة من صحيفة المقدم، فقرر أن يستغني بأخبارها عن "مؤلفي الأغاني"، وبالفعل بدأ في تلحين أول خبر وقعت عليه عينه، وهو رسالة من مكاتب المقطم بالفيوم، تقول: "قدم الفيوم صاحب العزة محمد بك عبد اللطيف قاضي محكمة "أطا" الجزئية، ومراد بك محسن قاضي محكمة الفيوم الجديدان، وقد باشرا أشغالهما..."، وتكرر الأمر، فيقول عبد الوهاب: وجدت في "المقطم" مادة أغنتني عن السادة المؤلفين، ولقيت في ساحتها متسعاً للألحان أوزع عليها أنغام السيكا والجركا، وأحيطها بالبياتي والحجاز كار.

واصل عبد الوهاب مذكراته في مجلة الاثنين، فتحدث عن زيارته إلى العراق عام 1931، ومقابلته الملك فيصل الأول، وظروف تعرفه بأمير الشعراء أحمد شوقي، واصطيافهما معاً في لبنان أكثر من مرة، وكذلك زياراته سورية، وعن مواقف طريفة جمعته بأحمد رامي، ونظرته إلى فن عبده الحمولي ومحمد عثمان، وظروف أول حفل غنى فيه أمام الجمهور.

المرحلة الثانية من مذكرات عبد الوهاب، تمثلت في 13 حلقة نشرتها مجلة الكواكب عام 1954، وبالطبع، كرر الموسيقار بعض ما ذكره في مذكرات مجلة الاثنين، لكنه حتى عند تكرار بعض القصص لم يكن يخليها من إضافات، فيروي في الحلقة الأولى كيف تعرف عليه فوزي الجزايرلي، وكيف أعجب به بعد أن سمع منه بعض قصائد سلامة حجازي، ليأتي التطور المهم، حينما طلب منه الجزايرلي أن يغني على المسرح بين الفصول مقابل 10 قروش في الليلة.. وكيف أوشى به بعض المعارف لدى أخيه حسن، حتى ينقذه من هذا "الفساد"، ليقتحم الأخ الأكبر المسرح، وينزل المطرب الصغير، ويربطه بحبل حول عنقه، ويجره في الشارع أمام الناس، من حي الحسين إلى حي الشعراني.

وفي الحلقة الثانية، واصل عبد الوهاب استعراض ما واجهه من صعوبات، وما عاناه من شدائد بسبب حبه للغناء والموسيقى، فيروي قصة هروبه إلى دمنهور مع أصحاب سرك متنقل، ومبيته في الاصطبل بجوار بغلة ليالي عدة، واشتراكه في تظاهرات ثورة 1919. وفي الحلقة الرابعة، يحكي عن رواية شهرزاد التي قدمتها فرقة سيد درويش، وكانت البطولة الغنائية فيها للشيخ سيد نفسه، لكنها فشلت جماهيرياً فشلاً ذريعاً، أرجعه عبد الوهاب إلى "سقوط الجمهور" الذي لم يكن على مستوى هذا "الفتح الكبير" الذي قدمه درويش. كما روى عبد الوهاب قصة زيارته الفنية إلى الأقطار العربية، ضمن فرقة نجيب الريحاني، الذي طلب من المطرب الصاعد أن يغني بين فصول الروايات كما هو معتاد.

ومن أهم ما يرويه عبد الوهاب في هذه المذكرات، قصة ميلاد المنولوج الشهير "في الليل لما خلي" الذي كتبه له أحمد شوقي.. وجد الموسيقي الشاب نفسه أمام نص جديد، يتسم بطابع وصفي، لا يتحدث بطريقة مباشرة عن العشق والهجر والصد. يقول: كان يجب أن أصنع في تلحينها شيئاً جديداً أيضاً، وما دامت القطعة وصفية، فيجب أن يكون للموسيقى فيها نصيب كبير يساعد على إبراز اللوحة الفاتنة التي رسمها الشاعر.

ويؤكد عبد الوهاب، أنه أدخل للمرة الأولى آلات الفيولينسل والكونترباص والكاستانيت وهي الصاجات الخشبية الإسبانية، في هذه الأغنية تحديداً..، ويشير إلى أن الأغنية نجحت نجاحاً كبيراً، مما شجع أحمد شوقي على كتابة منولوجات من هذا اللون، فكتب "بلبل حيران" و"النيل نجاشي".

عمل محمد دياب لسنوات صحافياً وباحثاً فنياً، في عدد من الصحف والمجلات المصرية والعربية، وشارك في إعداد كثير من الأفلام الوثائقية، كما شارك في التحضير لعدد من المهرجانات السينمائية، وحصل على جائزة التفوق الصحافي من نقابة الصحافيين المصريين لأربع سنوات متتالية.. ولا ريب أن إتاحته هذه المذكرات، وجهده في جمعها وتحقيقها، يمثل إضافة مهمة للمهتمين بتاريخ أعلام الموسيقى العربية عموماً، وسيرة موسيقار العرب الأكبر محمد عبد الوهاب على وجه الخصوص.

المساهمون