"أنا لا أخاف الموت لكني حزين". أذكر هذه الكلمات جيداً من آخر لقاء جمعني مع الراحل محمد أبو الغيط في لندن. قالها والابتسامة لا تفارق وجهه، ترتسم بقاياها فوق ملامح أذابها الشحوب كلياً وأحالها شمعاً متعباً. كنا قد رتبنا موعداً بشق الأنفس بعد طول أخذ ورد، فشهور محمد الأخيرة كانت رهن خيانات جسده الكثيرة ومواعيده الطبية المتلاحقة.
في تلك الظهيرة المشمسة في شتاء لندن لم أكن أعتقد أننا سنضحك لتلك الدرجة من حديث الحياة عن الموت. أخبرني محمد حينها بصوت بالكاد يُسمع عن حديقته الجديدة، عن اكتشافه روح الأرض في باحة منزله الخلفية، عن آخر تحقيقاته الاستقصائية وعن هؤلاء الفاسدين، عن كتابه الذي يريد أن يراه منشوراً قبل نهاية العام لأنه يعلم أنه قد لا يكمله حياً، عن صغيره يحيى الذي بات مدركاً على نحو ما اقتراب ذهاب والده، وعن مساءات المدينة القاسية عليه حين يفقد الوعي من دون سابق إنذار. كان يصمت بين الفينة والأخرى ليستمتع بأشعة الشمس الشحيحة تسقط على وجهه المتعب مغمضاً عينيه، سارحاً في موجة من الدعة.
انفجر ضاحكاً وهو يتحدث عن خلافه "اللذيذ" مع عائلته حول المكان الذي سيدفن فيه. عن وصيته الأخيرة، عن مآلات مكتبته القديمة، وعن مشاريعه التالية إن كتب له أن يعيش أكثر. في تلك الظهيرة، حكى لي محمد عن رحيله القريب كما لو أنه يحكي عن آخر غيره. بدا ممتلئاً باليقين وهو يقف على ذلك الخط الرفيع الفاصل بين الحياة والموت. لم أصدق حينها أن هناك من يستطيع التحديق بجرأة لهذه الدرجة في عين الموت دون وجل. كان يعيد اكتشاف جدارية محمود درويش التي وضعها بعدما عاد من الموت مردداً: "ليبكي الميت فينا الحي". حدثني عن غلغامش وعن غباء الباحثين عن الخلود خارج حدود الكتابة والأدب، وعن أحلامه بالسفر دون توقف.
عرفت محمد في التلفزيون العربي منذ تأسيسه عام 2014، زميلاً شديد الهدوء والدماثة، كما عرفه كثيرون غيري. في مكتب معزول نسبياً قرب غرفة الأخبار كان يجلس لساعات طوال يعمل من دون اكتراث بكل الضجيج حوله. ذلك اليقين الذي لف حضوره طوال السنوات التالية، لم يكن سوى وليد تواضع أصيل، وإصرار صلب على خوض المغامرة تلو الأخرى. كان ثابتاً على مواقفه دون استعراض أو مهادنة، صحافياً لا يشق له غبار، وخلف الصحافي خبأ كاتباً فذاً لم نعرفه سوى على أبواب الرحيل.
عندما اكتشف مرضه، كان في مرحلة متقدمة أصلاً. عرف حينها أنه إن عاش سيعود زمان المعجزات الذي ولى. في مراحل تالية أدرك بعين الطبيب أن كل يوم إضافي ليس سوى معجزة أخرى. طوال شهور درب محمد نفسه ودربنا كذلك على رحيله القريب المحتمل موثقاً رحلته ونهايتها المحتومة ببصيرة نافذة. كان لامس أطراف ثوب الموت عدة مرات، وفي كل مرة كان يعود إلينا بالمزيد، ليخبرنا كيف يمكن لجوهر الحياة أن يُرى بعينين على وشك الإغلاق إلى الأبد، وبكل تلك الخفة التي لا يمكن احتمال ثقلها أبداً.
رحل محمد أبو الغيط اليوم كما عاش بيننا دوماً: خفيفاً، هادئاً، دمثاً، ساخراً، وشديد الحزن أيضاً.
وداعاً يا محمد.