مجد الجسد العاري لبامِلا أندرسون: إنّه زمن سقوط الأيديولوجيات

10 مارس 2023
باملا أندرسون: "لست عارية طالما أنّي أرتدي حذائي" (فرنسوا غيّيو/فرانس برس)
+ الخط -

ظهرت بامِلا أندرسون (1967) على غلاف مجلة "بلاي بوي" أول مرة في أكتوبر/ تشرين الأول 1989. في الشهر الموالي سقط جدار برلين، وتفكّك الاتحاد السوفييتي عام 1991، وتغير العالم. التبس اليمين واليسار. ما الذي ملأ الفراغ الذي خلّفه سقوط قطبية الشيوعية والليبرالية؟

كانت بامِلا تكره أنْ تكون غير مرئية. جاءتها الفرصة على غلاف مجلة، وفي مسلسل مُدوٍّ، مؤسّس للنوع. كانت الصُور الإيروتيكية أقصر طريقة ليكون الفرد مرئياً. كانت تستعرض صدرها، وتُقبّل عشّاقها، وترقص مع معجبيها، عارية تقريباً، على شاطئ أميركا، على المحيط الهادئ. هذا حلم الشباب.

انتهت الحرب الباردة، وحلّت محلها الصُور الساخنة. نزلت مرتبة الأيديولوجيا، وارتفعت منزلة الجسد في الهمّ الثقافي. الجسد يُرى ويُلمَس، وله سلطة. لا يحتاج جهد الفكر، بل لذّة الغريزة. ظهرت بامِلا بملابس البحر، في Baywatch (مسلسل تلفزيوني، 1989 ـ 2001، في 243 حلقة)، المسلسل الأشهر، الذي سحر الشبيبة. بُثّ المسلسل حتّى في الصين الشيوعية، التي تزحزحت لترحّب برأس المال العالمي.

في هذا السياق، صارت الفتاة اللعوب، التي لا تملك أيّ رأسمال ثقافي أو فني أو سياسي، أشهر من تشي غيفارا. صارت مشهورة بجسدها.

هذا تاريخُ تحوّل ثقافي، شهد ميلاد عالم جديد، سيكرهه الرفاق والمثقّفون التقليديون والفقهاء، وهم يشاهدون تحوّلات مهولة. عبّر المثقفون العرب عن غضبهم من سطوة الجسد، كما يكشف أرشيف جرائد المرحلة، خوفاً من القُبل في المسلسلات المكسيكية، مثل "أنت أو لا أحد"، ثم التركية، كـ"نور ومهند" (تأسّست قناة MBC عام 1991). في هذا السياق، الذي تلا سقوط جدار برلين، انتصرت رأسمالية السوق، التي لا مشروع لها غير الربح، وأعلن الباحث الأميركي فرنسيس فوكوياما نهاية التاريخ (1992). انتصارٌ غَيّر موقع الأشياء وزاوية النظر إليها. حدَّد الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبري التغييرات الحاصلة في السلطة الفكرية، في العقدين الأخيرين من القرن الـ20: "حَدَث نوعٌ من الانهيار لما كان من استقلال في الجهاز الجامعي، تمركز في الوسائل الإعلامية. انحطاط فيما هو سياسي. تدنّي الدولة أمام السوق، والذاكرة الوطنية أمام الذاكرة المسمّاة "عالمية". إنّها ذاكرة أميركية بشكل واسع".

ذاكرة بصرية ثقيلة، تحتلّ فيها مجلة "بلاي بوي" ووجبات "ماكدونالد" ومسلسل "باي واتش" موقعاً مركزياً.

في هذه الذاكرة المُصوّرة الحيّة، التي تكتسح العالم، لم تعد الأيديولوجيات تحتلّ الواجهة. لم يعد وصف الرفيق مفخرة. تراجعت الأيديولوجيات، وخلّفت خواءً يملأه الشكل. شكلٌ صار بقيمة المحتوى المفقود. سيخجل المثقّف العضوي من الكتابة عن هذه الذاكرة. لكنْ، لا يمكن تجاهل الظاهرة، التي عشتها في شبابي.

لم يعد مثقّف المرحلة عضوياً مرتبطاً بقضايا وهموم شعبه. صار يكره التطوّع، ويساند تمويل الشركات للجامعات. صار متحفّظاً يذود عن هوية وذاكرة محلية، قبلية أو عرقية أو دينية، تحرّم مشاهدة المسلسلات بسبب اللقطات المحرّمة، أو تشترط غضّ البصر عنها. من هنا، سينمو قلق ما سمّاه الأميركي صمويل هانتنغتون "صدام الحضارات" (1996).

ما صلة بامِلا أندرسون بهذا؟

كانت بامِلا مرئية على تلفزيونات العالم: تسبح وتجري وتستلقي عارية. ظهرت في أروقة مهرجان "كانّ" من دون فيلم. كانت بديلاً غير "مؤدلج"، هيمن على الإعلام العمومي. كانت تحتلّ التلفزيون، الذي ينشر ثقافة شعبية جديدة، وينافس الواقع. كتب عالِم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو إنّ "التلفزيون، الذي يسعى إلى أنْ يكون أداةً لتسجيل الأحداث، يُصبح أداةً لخلق الواقع" ("التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول"، ص 54).

 

 

كانت بامِلا نجمة النجمات، تُلتَقط لها صُور بفمٍ مفتوح ومتعطّش، كلوحات وتماثيل نشوة قديسة العشق الإلهي تيريز دافيلا (1515 ـ 1582). كانت تعتبر تحريك جسدها موهبة، في سباق الجمال الطبيعي والموهبة الفنية. انتصر الصدر الكبير على النقاشات الثقافية. ومع الصُور، التي تركّز على الصدر النافر، في "بامِلا: قصّة حب" (2023، نتفليكس) للمخرج الوثائقي الأميركي راين وايت، نسمع مونولوغاً طويلاً من التبريرات. تحدّثت بامِلا عن شقاء طفولة كندية، على جزيرة. تقول إنّ الكلمات تساعدها على تحمّل سخافة الحياة، وإنّها بدأت خجولة في جلسات التصوير. مع الزمن والمال، سَهُل عليها الوقوف عارية أمام الكاميرا. هكذا انفتح لها عالم الشهرة والمال والسعادة. النجاح بعرض الجسد 14 مرّة على غلاف "بلاي بوي". رجاها صحافي حكيم: "هل يُمكن أنْ تُحدّثينا عن ثدييك؟".

بعد مارلين مونرو، تُقدِّم "نتفليكس" وثائقياً حول نجمة الخمس الأخير من القرن الـ20. موضوع السيناريو؟ أمطار من صُور أجسادٍ فاتنة على الشاطئ. تمّ تجاوز كلّ الخطوط الحمر لعرض الأجساد. هذا موضوع الفيلم، ببساطة ووضوح فادحين: ممثلة طارئة، تفخر أنّها ليست عارية طالما أنّها ترتدي حذاءها.

هذا عرض عن تفاهة مريعة غيّرت العالم. يحتلّ الجسد الصدارة. تعرض الأنثى نفسها كنجمةٍ، وتتصرّف على هذا الأساس، في لباسها وسَيرها. الصورة المثيرة. ترتدي الأحمر، وتجلس على ركبتيها، وتعرض فخذين رخاميين بيضاوين منفرجين، وابتسامة جانبية أشبه بنداء. الأحمر نداء شهوة، إذْ يتحدّث بيار بورديو عن الاستعراض المضبوط للجسد الأنثوي كدليل على "التحرُّر". استعراض يبرز جسداً جاهزاً للفتنة والإغواء، ليستجيب للتوقّعات الذكورية.

في هذا السياق، ما عاد للمتلقّي وقتٌ للتأمّل والبحث. توقّفت الندوات الأدبية والفكرية، التي كانت تستقطب الجمهور. صار المتلقّي يبحث عن وجبة صُور (فاست فود). عن استعراض صُور تُلهب الأحاسيس. صعد الجسدُ الساحة الأيديولوجية. الجسد أيديولوجيا خفية، تصعب مقاومتها.

يتكرّر هذا الاستعراض حالياً على البساط الأحمر، في افتتاح المهرجانات السينمائية. بعد أغلفة "بلاي بوي"، وبعد انطفاء جسد الإغراء، حان وقتٌ للحكمة. ساء الأمر حين ظهرت الإنترنت، ونشرت صُور بامِلا. شعرت بأنّها مجرّد "قطعة لحم". هذه أيديولوجية الجسد مُصوّرة. اتّضح أنْ نشر الصُور، الذي كان إنجازاً، صار فضيحة تفترس صاحبته وأطفالها في المدرسة. لتحسّن سُمعتها، صارت مناضلة من أجل حقوق الحيوانات.

المساهمون