كم هو مريحٌ في الفن، وفي الموسيقى على وجه الخصوص، أن تتوفر لديك إجابة آنية عن سؤال كثيراً ما يُحيّرك حين يواجهك: من تُفضّل من بين المؤلفين أو العازفين؟ لذا أشعر بالسرور، في كل مرة أُسأل فيها عن قائد الأوركسترا المفضل لديّ خلال القرن العشرين. إذ إن إجابتي تأتي سريعة، قاطعة، ومن دون تردد: ليونارد بيرنشتاين (1918 ــ 1990). لا لعبقريته الموسيقية فقط؛ فقد كان عازف بيانو بارعاً، ومؤلفاً فذاً وقائد الأوركسترا الأقدر في عصره، بحسب شهادات جميع من عزفوا معه، على جعل العازفين على خشبة المسرح أو في استوديو التسجيل يقدمون للمستمعين أفضل ما عندهم. السبب لم يكن سحر شخصيته وسرعة بديهته وسعة معرفته، ورفعة ثقافته وشجاعته السياسية والاجتماعية اللامتناهية، بل لكونه أمثولة في البذل، وعدم الخوف من الإسراف في العطاء. سواء في الفن أو في الحياة.
في برنامجه التلفزيوني الجماهيري عن ماهية الموسيقى "السؤال الذي لا إجابة عنه"، يتحدث بيرنشتاين واصفاً في دقائق الحركة الرابعة والأخيرة، لعلها الموسيقى الأروع على الإطلاق، من سيمفونية غوستاف ماهلر التاسعة. فيقول: "هكذا نصل إلى الصفحة الأخيرة ــ من السيمفونية ــ بكل ما بها من عظمة لا تُصدّق. تلك الصفحة، في اعتقادي، لهي أقرب ما وصل إليه أي عمل فني في اختبار لحظة الموت وتسليم كل شيء. بطء تلك الحركة يبعث على الخوف. كل التوجيهات الأدائية التي دوّنها المؤلف على النوتة تحث على التباطؤ… في سعي لتجسيد اللحظة الأخيرة التي تسبق توقف الزمن. إنه لشعورٌ مخيف، شللٌ يُصيبنا جراء تحلّل خيوط الأصوات. بينما ما زلنا نتمسّك بها، نحوم ما بين الأمل والاستسلام. واحداً تلو آخر، تذوب الخيوط العنكبوتية الدقيقة التي تصلنا بالحياة وتتلاشى من بين أصابعنا. مع هذا، نتشبث بها وهي تذوي؛ خيطان، خيطٌ واحد، ثم فجأة، ولا واحد. ثم تأتي لحظة مرعبة لا يتناهى خلالها سوى الصمت. إلى حين أن تسمع خيطاً من جديد، منكسرا، خيطين، ثم واحد، فلا واحد؛ لقد بِت نصفَ مغرمٍ بموت يسير. إذ إن الموت أكثر من يوم مضى، يبدو كما لو أمسى غنى. عند منتصف الليل، ومن دون ألم، تتوقف الحياة؛ بالموت نخسر كل شيء، لكن عند ماهلر، نبدو بالموت كما لو أننا كسبنا كل شيء".
أكثر ما يُؤثر بالنفس، في هذا التأويل الموسيقي العميق والوصف الشعري البليغ، هي السطور الأخيرة التي اقتُبست في الواقع من قصيدة "أنشودة إلى عندليب" للشاعر البريطاني جون كيتس. وما زاد من وقعها هو الأداء الذي ترجم به بيرنشتاين تلك القراءة موسيقياً على خشبة المسرح. في تلك الأمسية التاريخية، المسجّلة والمصورة سنة 1972. حين قاد أوركسترا فيينا الفيلهارمونية لتعزف سيمفونية ماهلر التاسعة.
إذ تراه يعيش الأداء على خشبة المسرح، كما يحيى على مسرح الحياة؛ فالشمعة لكي تضيء، وجب عليها أن تحترق. ليس خلال الحفل فقط، وإنما في كل دقيقة من ساعات التمرين الشاقة الطويلة التي كان يخوضها مع أعضاء الفرقة قبل مقابلة الجمهور. في كل حركة من عصا القيادة وعبر كل إيماءة، كانت تصدر عنه شحنة هائلة من طاقة روحية، تدب في نفوس العازفين، قبل أن تُبث عبر أثير الصالة إلى قلوب المستمعين.
لم يكن بيرنشتاين يخشى البذل وتبعاته الجسدية أو النفسية. بل اعتنقه أسلوب عيش وطريقة فهمٍ للوجود وماهيته والغاية منه، وفي المجالات كافة. كانت تلك عقود الخمسينيات والستينيات نهاية القرن الماضي. في غرب ينهض وينفض عنه رماد الحروب. سنين نمو اقتصادي وفوران اجتماعي وثوران سياسي، انعكست في سعيٍ متواصل خلف اللذة بأشكالها، والحب بألوانه. تبنّى ليني، كما ناداه أصدقاؤه، تلك المفاهيم بشدة وذهب بها إلى أبعد الحدود. ظل يُدخّن التبغ بشراهة حتى عجزت رئتاه عن تنفس الهواء. كما كان يقضي الليالي ساهراً في تأليف الموسيقى، والنهارات في التمارين والمقابلات والمظاهرات، والأماسي يُحيي الحفلات، وفي ما تبقى يدور العالم على متن الطائرات.
انفتح على الفن الشعبي (pop) ورأى فيه إمكانية الاتصال بقواعد المجتمع العريضة. إلى جانب كونه من ركائز الهوية الثقافية الأميركية القائمة على العفوية والارتجال، مقابل مركزية أوروبا التاريخية ذات النزعة العقلانية والمحافظة. من هنا أجاد عزف وتأليف موسيقى الجاز. حتى أنه انتهى إلى توظيفها في أعماله الكلاسيكية.
كما اشتغل في مجال الصناعة الفنية الترفيهية، من كتابة موسيقى تصويرية مسرحية وسينمائية، وإنتاج دراما غنائية استعراضية (ميوزيكال)، منها "وست سايد ستوري" سنة 1975 التي استلهم كاتب قصتها ستيفن سوندهايم أحداثها من تراجيديا شكسبير العاطفية "روميو وجولييت".
وكما هي الحال دائماً، عندما تتعارض رؤية الفنان الكونية مع مؤسسة السلطة السياسية، قُدِّر لبيرنشتاين أن يخوض صراعاً مع الإدارة الأميركية خلال المرحلة المبكرة من الحرب الباردة، كاد أن يُكلفه مشواره المهني وأن يُدخله معسكرات الاعتقال لسنينَ عدة. تضامنه مع قضايا التحرر العالمي، وإسراعه إلى توقيع أي عريضة في سبيل مناهضة العنصرية أو وقف سباق التسلح النووي، ساقا اسمه إلى قوائم المشتبه بهم في تهمة الشيوعية. جاء ذلك في غمرة الرهاب الأمني وسياسة "الحذر اللاعقلاني" Irrational Vigilance التي تملّكت فروع الاستخبارات آنذاك، اشتباهاً بأي تغلغل سوفييتي داخل المجتمع الأميركي يتخفّى تحت عباءة اليسار العالمي.
قال الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت ذات مرة: "لا يمكن إدراك الوحدة بين الروح والجسد، إلا باستهلاك الحياة"، لعل ذلك ما أراده بيرنشتاين وصبا إليه. لقد عاش الموسيقى إلى حد لم تعد معه الموسيقى تشغل حياته وإنما غدت حياته تشغل الموسيقى. أحب الفن حدّ الإسراف، فبذل في سبيلها أغلى ما يملك، بذل حياته. وحين يبذل المرء حياته لأجل شيء، فإنه على طريقة ماهلر، يكسب كل شيء.