ليلى حاتمي: "السوداوية في السينما دعوة إلى الغرق"

25 فبراير 2022
ليلى حاتمي: حين أختار أفلامي أكون مكان الجمهور (مهرجان فزول لسينمات آسيا)
+ الخط -

 

التقيت الممثلة الإيرانية ليلى حاتمي للمرة الأولى في مقهى ملتحق بدار سينما تمتلكها العائلة في شارع "جمهوري إسلامي التجاري" في مركز طهران. المكان مميّز، أقرب إلى نادٍ ثقافيّ منه إلى مقهى عادي، يلجأ إليه سينمائيون، وأناس من خارج المهنة، يتابعون فيه نقاشاتهم ولقاءاتهم بعد مشاهدة فيلم في الصالة.

اختفى المكان بعد أنْ شبّ حريق هائل في الصالة عام 2008. كانت التأويلات كثيرة حينها، سياسية واقتصادية. ولعلّه لم يكن مكاناً مريحاً للسلطات بسبب التجمّعات فيه، أو لأنّ موقعه استراتيجي، إلى درجة تؤهّله ليكون أكثر من مجرّد صالة سينما.

في العام نفسه، التقيت حاتمي في منزلها في طهران، بمساعدة أصدقاء من الوسط السينمائي هناك. كانت شهرتها واسعة في إيران آنذاك، وتتجاوز كثيراً شهرتها العالمية. في الغرب، باستثناء جمهور محدود ونقّاد ومهتمّين بالسينما الإيرانية والأسماء المهمّة والمؤثّرة فيها، لم يكن اسمها منتشراً بعد بشكل كبير.

دعوتها إلى "مهرجان فزول الدولي لسينمات آسيا" (فرنسا)، رئيسةً للجنة التحكيم الدولية في دورته الـ28 (1 ـ 8 فبراير/شباط 2022)، حافزٌ إضافي لحضور هذا المهرجان المهم والمُشوّق. حافزٌ صاحبه فضول وتساؤل: كيف باتت ليلى حاتمي (1972) بعد أن أصبحت نجمة عالمية، ليس بفضل "انفصال نادر وسيمين" (2011) لأصغر فرهادي ("الدبّ الذهبي" في "مهرجان برلين السينمائي 2011" و"سيزار" و"أوسكار" 2012 أفضل فيلم أجنبي، وغيرها)؟ ما يُثير حفيظة الممثل، إرجاع شهرته دائماً إلى فيلمٍ محدّد، أو إلى مخرج معيّن، خاصة إذا كان يستحق الشهرة من دونه، والأهم أنّه نالها قبلاً في بلده، بكل استحقاق.

تساؤل آخر: هل تتذكّر حاتمي اللقاءين السابقين؟ فذاكرة النجوم قصيرة، لكثرة ما يمرّ أمامهم، ومن يلتقون بهم. لم تتذكّرهما، كما بدا. فالزمن الطويل فرض تغيّراته وخطوطه. أدركت من أسلوبها أنها لم تتذكر تماماً، رغم قولها "نعم نعم، طبعاً". فالإيرانيون لا يميلون كثيراً إلى إشعار من هم أمامهم بما يبدو كأنه "قلّة لياقة".

جاءت الموافقة على الحوار مع تحديد مدّته، بين 9 و9 ونصف صباحا. هذا أكثر ما أنفر منه في اللقاءات، لكنْ للنجوم برامجهم الحافلة، حتى في مهرجان ليس بزحمة "كانّ" و"برلين". تساءلت: هل ستحضر في الموعد الباكر؟ فليلى نجمة، وللنجوم نزوات كما يقال. كنت أتساءل، وإذا بصوتها يقول: "سأحضر قهوتي (من مطعم الفندق). ماذا أحضر لك؟".

الحوار باللغة الفرنسية، التي تُجيدها ليلى حاتمي تماماً، إذْ درست في "المدرسة التطبيقية العليا (بوليتكنيك)" في سويسرا أعواماً عدّة، قبل انتقالها إلى الأدب الفرنسي، ومنه إلى التمثيل.

 

 

(*) 14 عاماً منذ لقائنا الأول في طهران. يصعب سرد مسيرتك وتطوّراتها فيها. لكنْ، يُمكن حصر أبرز علاماتها بالنسبة إليك.

العلامة الأهمّ كانت ولادة طفليّ (صبيّ عام 2007، ثم فتاة عام 2008). قبل 2007، كنتُ أكثر تشدّداً في خياراتي. أعترض وأتدخّل في تحليل تفاصيل المَشاهد. بعدها، حصل تغيّر في طريقة إدارتي للمهنة. بتُّ أكثر سلاسة ومرونة. أدركتُ ذلك في مدينة "مشهد"، عند تصوير أحد المشاهد حول الوفاء بنِذْر (فيلم "الوحدة، كلّ ليلة" لرسول صدر عاملي، 2008 ـ المحرّر). حين اعترض زميلٌ على طلب المخرج له بإعادة المشهد، كان ردّ فعلي الفوري: مثّلْه ولننته. كنتُ متشوّقة للانتهاء من التصوير، والعودة إلى الفندق لرؤية طفلي، والعناية به، رغم أنّه كان مع أمي وزوجي والمربية. هذه العلامة جعلتني أتلمّس تغيّري.

كنتُ في مواجهة أمرين: المشهد والطفل، وأحدهما واقعيّ ومحسوسٌ وحقيقي، أي طفلي. حتى ذلك الوقت، لا شيء كان يتجاوز السينما في أهميته لي. كانت السينما هويتي ورغبتي وشغفي، وبفضلها انطلقتُ وعبّرتُ عن نفسي.

 

(*) عودة إلى البدايات. هل تتذكّرين لحظة اتّخاذك قرار أن تكوني ممثلة؟ هل كان للمكان تأثير في ذاتك؟

ليس تماماً. أذكر أنّي كنتُ في الثالثة من عمري، في باحة المدرسة، عندما تخيّلتُ أنّ هناك كاميرا تُصوّرني من الأعلى. دخولي إلى المهنة لم يتطلّب جهداً منّي. كانت الفرصة مفتوحة أمامي. كنتُ كطفلةٍ تُركَت لمصيرها (مبتسمة) أمام مكتبة من الأفلام الآتية من كل بلدان العالم، وبينها أفلام والدي (المخرج علي حاتمي، 1944 ـ 1996، المحرّر)، أو في استديوهات التصوير. وحيدةٌ أنا، لا إخوة لي، مع والدين يعيشان حياتهما ليلاً. توقّفت أمي عن التمثيل بعد الثورة (زري خوشكام قبل أنْ تُصبح زهرا حاتمي بعد الثورة ـ المحرّر)، وباتت تعمل مساعدة لأبي في أعماله السينمائية، وتبقى دائماً معه. أتخيّلها الآن وهي تعمل، حاملة الهاتف بيد، والسيجارة بيد (تمثّل ليلى الحركة مبتسمةً ـ المحرّر).

مع هذا، أردتُ أنْ أثبت لنفسي وللآخرين قدرتي على فعل شيء آخر غير السينما. إثبات الذات في طريق أخرى. قرّرت الدراسة، مع إدراكي أنّي لن أفعل شيئاً آخر غير التمثيل. في أعماقنا، نرتبط بما نعرفه منذ البداية. أردتُ أنْ أبرهن أنّ لي أهدافاً غير تلك التي حُضِّرت لي.

 

(*) ما الذي يجعلك تقررين المشاركة في فيلمٍ، يعرض عليك؟ السيناريو، أو اسم المخرج، أو الأجر؟ أم أنّ هذا الأخير لا دور له؟

طبعاً له دور. إنّه تعبير عن قيمتي ومدى أهميتي للفيلم، وما يعنيه وجودي فيه. مثلاً، في مفاوضات حول فيلم، كانت الأمور تسير باتجاه التوقيع على عقد العمل، ثم توقّف كلّ شيء. ليست المسألة قضية مال، بل ما أسمّيه التقدير. مهمٌّ لي معرفة مدى أهمية دوري في فيلمٍ. أنْ يكون هناك إدراكٌ لقيمته، وتقديرٌ لما أستحق ولما سأمنحه. المخرج يجعل دوري أجمل، وأكثر إدراكاً. المهمّ شخصيتي في السيناريو. هناك مخرجون كالآلهة، قادرون على فعل كلّ شيء من لا شيء. حتّى مع هؤلاء، أنظر دائماً إلى مكاني ودوري في السيناريو. أحياناً أوافق على دورٍ حتّى لو لم يكن كبيراً. كلّ هذا يدخل في حساباتي.

 

(*) حسابات؟ ألا تتركين دوراً للغريزة والعفوية في انتقاء دور؟ اسم مخرج؟

حتّى في الاعتماد على الغريزة، هناك حسابات، وإن تكن هنا سريعة (تبتسم). العمل في فيلمٍ عبارة عن خيارات عدّة، ومع كلّ خيار يجب إجراء الحسابات. أنْ يأتي مخرجٌ كبير ويقول لي: "تعالي للعمل في فيلمٍ لي"، أردّ عليه: "كلا، يجب أنْ أقرأ السيناريو أولاً". دوري في الاختيار لا أهبُه إلى أحدٍ آخر. لا أستطيع منحه ثقتي. ربما لا يرى بوضوح تام. ربما يُخطئ بأمرٍ ما. ربما يُفكّر بنفسه إلى درجة أنّه ينساني، طبعاً من دون أنْ يقصد ذلك.

 

(*) هناك ممثلون لا يحبّون مشاهدة أفلامهم بعد الانتهاء منها. كيف تشاهدين أفلامك؟ لوحدك، أم مع الجمهور؟

أشاهدها طبعاً، وهذا لا يسعدني دائماً. أحبّ مُشاهدتها مع الجمهور، لكنْ ليس قبل أنْ أشاهدها بمفردي. لا أريد أنْ أكتشف أو أفاجأ بشيءٍ في الفيلم لأول مرة في عرضٍ عام. في أي حال، حين أختار أفلامي، أكون كأنّي مكان الجمهور. كأنّي الجمهور.

 

 

(*) منذ أعوام، تأتينا من إيران سينما جديدة، عنيفة وفجّة، تختفي منها الشاعرية، تلك التي كرّسها عباس كياروستمي. هل اختفى تأثيره؟ ما نظرتك إلى هذه السينما؟

في السينما، لا أميل إلى البؤس والسوداوية والمعاني التي تدعو إلى الغرق. أنفر من هذا. لا أحبّذ دعوة الناس إليه. السينما ضوء، Lumière (كرّرتها بالفرنسية)، أخْذُ الأشياء بخفّة. السينما تأمّل ومُراقبة، والنظر بتمعّن وحساسية. هذا يُفتَقد في النظرة السوداوية. هناك مستويات في هذا النوع السينمائي: مثلاً، يُمكن طرح مشكلة اجتماعية واقعية، الشرط الإنساني، الظروف الصعبة، تصوير الحزن والشجن، وغيرها، ليُقال إنّ هذا وضعنا، لكننا لسنا وحدنا، والحياة تستمر، ولها (الحياة) قيمة. لكنْ، أنْ يمسّ العملُ الإنسان نفسه ليُغلق السبل كلّها أمامه، ويحصره في مآزق لا نجاة منها ولا خلاص ولا حلول، فهذه سوداوية أنْفُر منها. بقاء على السطح، على ظواهر الأشياء. إنّه اعتراضي الوحيد على هذه الأفلام.

كثيرون نسخوا عن كياروستمي في السينما الإيرانية. لضمان نجاحهم، عملوا أفلاماً تشبه أفلامه. هذا منح كثيراً لتلك السينما عامة، لكنّه لم يكن، على الصعيد الشخصي، مُجدياً للمخرجين. النسخ والتأثّر في الفنّ عامة مُتدَاولان. هذا موجود في العالم. حتّى في الأزياء والموضة لا يمكن تجنّبه. لكنْ، يجب أنْ تصاحبه رؤية خاصة ونظرة شخصية. هؤلاء المخرجون غيّروا رؤاهم ونظراتهم بطريقة كياروستمي. اليوم، يسود تيار السوقية والعنف، والدعوة إليهما. ربما يكون التيار كذلك نتيجة ردّ فعل، لأنّ السينما الإيرانية كانت محرومة من مَشاهد، مهما كانت قليلة جداً، تنتمي إلى هذا النوع. الآن، ربما يعود انتشارها الواسع إلى تساهل الرقابة.

فيلمي الجديد يحتوي على عنفٍ، لكن ليس عليه فقط. إنّه مُفعم أيضاً بالأمل والرهافة والشاعرية في التعامل مع الأحاسيس الإنسانية. تعاملٌ دقيق، مع أنّ الفيلم خليطٌ من الأكشن والرعب والحب. في "قاتل ووحشي" (2021، لحميد نعمت الله ـ المحرّر)، استُخدم العنف على نحو آخر. فيه توجّه جديد إلى تقدير العواطف، وإبداء مدى رقّتها وهشاشتها.

(فزول)

المساهمون