"لك ساقني الرب" لـ عبد المجيد عبد الله... التوقّف عند لفظة حُبّ

03 سبتمبر 2024
ميّزت أغاني عبد الله نبرة رومانسية عصرية (فيسبوك)
+ الخط -

لدى الاستماع إلى الأغنية السعودية منذ الألفية الثالثة وإلى الآن، كثيراً ما تبدو الملامح ثابتة والأشكال ميّالة إلى التكرار. لعله انعكاسٌ لثقافة محافِظة في الجوهر، تتبع أصولاً وتقاليد في جميع مناحي الحياة. إلا أنّه عند الإنصات يتسنّى للأذن أن تستشفّ متحوّلات قد لا تكون ظاهرة وإنما غائرة في التفاصيل التشكيلية والنبرة العاطفية، منها ما مصدرُه التطور التقني والرغبة بمواكبة الأحدث لجهة الجودة، والجِدّة التي يمكن أن تُسجّل بها الأغنية.

ومنها ما مصدره بوادر ذائقة جماليّة تتحوّل بدورها، وأغنية عبد المجيد عبد الله الأخيرة والمعنونة "لك ساقني الرب" مثالٌ على ذلك، إذ هي للوهلة الأولى إصدارٌ خليجيٌّ آخر، يلبّي سوقاً موسيقيةً نشطةً مربحة، تضمّ دول مجلس التعاون وجزءاً من المنطقة الناطقة بالعربية، إلّا أن ثمّة تطوّرات رقيقة خفيّة، تؤدي إلى تبدلّات عميقة من الداخل وفي الخلفية، لها أن تتجاوز الشكلي إلى البنيوي، وإنّ لا تتعدّى كونها سيرورةً ميّزت أغاني عبد المجيد عبد الله مبكّراً لجهة رومانسيّتها العصرية ولَطافتها الحَضَرية، وقد أخذت في التبلور، لتعكس الحياة في المملكة كما آلت إليه اليوم.

من بدء المقدمة الآلية، تخطُّها سَحبات أقواس آلات الكمان، سترتكز الأغنية إلى نهايتها على خطوات إيقاعية تُشكّل موتيفاً موسيقياً، أو موضوعة موسيقية. ثلاثٌ منها إلى الأمام، تعقبها مباشرةً خطوةٌ رابعةٌ ارتداديّة إلى الوراء، تخبو على شكل ذيل لحني. يمنح تصميم الموتيف اللحنَ رقّةً شاعريّةً راقصة أنثويّة، تجعل الإيقاع يقترب من جنس "الستاتي" السعودي، ذي الجذر الثلاثي الرشيق الأنيق.

أما اللحن، الذي وضعه المغني والملحّن والموزّع البحريني أحمد الهرمي، فيتّخذ من النغمة السادسة لمقام الكرد مُنطَلقاً للجملة اللحنيّة الأولى. لا تلبث أن تهبط الهوينا وصولاً إلى نغمة القرار. أما في الجملة اللحنية الثانية، فسيُعلّق اللحن على النغمة الثانية من جنس الكرد العلوي للمقام، مودِعاً الأذن في حال راقصةٍ من الترقّب والتأهّب، والتأمّل في ما هو آت، وذلك قبل أن يستقر على نغمة القرار لبرهةٍ، ثم يعاود الارتقاء إلى النغمة الرابعة مُعلناً نهاية المقدمة، وممهّداً لدخول الغناء.

ينْسلّ المذهب بصوت عبد المجيد عبد الله، أو المقطع الغنائي الافتتاحي الذي يُعرف أيضاً بـ"اللازمة"، قُبيل ورود الضربة المركزية  للإيقاع الساري، ويبدأ عند مطلع القصيدة، التي نظمها باللهجة الخليجية الشاعر السعودي المُلقّب بشُهرته الصامل. يتوقّف المغني عند لفظة "الحب" في أشبه بفاصلة، أو سكتة، محشوّة بصدى مُصمّم بالمؤثرات الإلكترونية، تتردّد اللفظة لمرة واحدة من دون أن يكتمل شطرُ البيت.

تتوالى الفواصل قُدماً على مسار اللحن، لتُحافظ على طابع الرِقّة والرقص، كما هي الحال عند نهاية البيت حيثُ كلمة "سجامي". هنا، ستضطّلع الوتريات بمهمة الحشو، ومن على منسوب مرتفع غير معهود في التوزيع الموسيقي للأغنية العربية عموماً، والخليجية خصوصاً. عند الفاصلة الثالثة، آخرَ الشطر الأوّل من البيت الثاني المنتهي بلفظة "اللب"، تلتقط أذن السامع أثَرَ الصدى وقد استحال كورساً غنائيّاً، وُزِّع هارمونيّاً، ترافقه الوتريّات.

باستمرار تحليقها على علوٍّ مرتفع وعلى طول الأغنية، تلعب الوتريّات دوراً أساسياً في ترقيق العمران الموسيقي عن طريق إدخال زخارف أثيريّة، حيويّة وحريريّة، تَعبُر ثنايا اللحن والمغنى والإيقاع كأطياف أو نسائم. بذلك، يغيّر موزعُ الأغنية البحرينيّ سيروس عيسى جمعة الطابع التقليديّ للمرافقة الآلية الذي اقتضى العرف التوزيعي إسناده إلى مجاميع الكمان، حين ظلّت الجُمل تُؤدّى ضمن المجال الصوتي المتوسّط الذي ميّز العزف الشرقي على الآلة.

في تصميمه للجسور الرابطة بين الأقسام والحشوات اللحنية، أو ما يُعرف لدى أصحاب الصنعة بمصطلح "لوزام"، يستفيدُ سيروس، أولاً، من التطوّر التقني النوعي الذي وصل إليه الجيل الجديد من العازفين الشرقيين، بحيث بات بإمكانهم تنفيذ جملٍ لحنيةٍ، تُكتب لهم في مستويات مرتفعة. وثانياً، من التطور التكنولوجي للوسائل الرقمية، إذ بات بالإمكان إما استبدال الدور البشري كُلّياً بأصوات إصطناعية، أو تبديل الطبيعة اللونية للآلات الوترية المُسجّلة بأقواس عازفين، بغية إحداث ألوان صوتية جديدة لآلة الكمان، تتميّز عن المألوف لجهة وقعها الحسّي وأثرها التعبيري.

أما لجهة إدخالها في عمران الأغنية، كثيراً ما تتجاوز الجسور والحشوات اللحنية وظيفتها التقليدية في ملء الصمت المتشكّل بين حدود الأبيات الشعرية، لتضطّلع بإنشاء خلفيّات موسيقية هارمونية. يستفيد سيروس من خلوّ الكرد من البُعيدات الصوتية، أو ما يُعرف بربع التون، ليُصمّم جُمل آلات الكمان ليس فقط على النحو الخطّي الميلودي السائد في الموسيقى الشرقية، وإنما على النحو الخطّي الهارموني أيضاً، وذلك بجعل اللحن يقفز فواصلَ نائية، تُحقّق انسجاماتٍ سائغة سواءً مع المغنى أو مع المقاطع الموسيقية، وعليه، تلعب الهرمنة دوراً، وإن على مستوى مُبسّط في تنويع التجربة السمعية.

موسيقى
التحديثات الحية

أيضاً، بهدف تنويع التجربة السمعية من خلال إحداث تصعيدٍ الشعوري يكسر الرتابة، التي عادة ما تُميّز الأغنية الخليجية التقليدية، سيُعاد المذهب بكلام البيت الأوّل من القصيدة وقد صيغَ وفق جملة لحنية جديدة، أشدُّ ارتفاعاً وأكثر دراميّة، تؤديها جوقة، أو "سنّيدة"، يتبعها جسرٌ آليٌّ طويل الأمد، يُنشأ في قسم منه من مقطعٍ تؤديه آلة العود المنفرد، وتدخل في حوارية مع المجاميع الوتريّة، التي تُحلّق وتلتف حول العود، فيما يستمر الإيقاع بالدبّ على الطريقة الخليجية.

في القسم  الثاني من الجسر الآلي، فتُعيد المقطع السابق آلات الكمان هذه المرة، بينما تنتقل آلة العود إلى دور المحاور والمُنفّذ للوازم. يُشكّل المقطع الآلي المكوّن من تتالي كل من العود والكمان مساحةً موسيقيةً رحبةً، قبل أن يعود المذهب بصوت عبد المجيد عبد الله، تتلوه سلسلة من المقاطع على ذات الجمل اللحنية السابقة، وإن لم تخلُ من ارتجالات غنائية، علاوةً على المُستجدّ المُستحدث من مؤثراتٍ إلكترونيةٍ، تطرأ حيناً على الغناء وحيناً على الموسيقى، فتُليِّن من صرامة التكرار.

المساهمون