لبنان الذي ابتلعه جنود "الأخلاق"

02 أكتوبر 2023
من الاعتداء على مسيرة الحريات السبت (فرانس برس)
+ الخط -

ملصق مستطيل، مصمّم بمقاييس تناسب مواقع التواصل الاجتماعي، تتوسّطه أسماء 7 مواقع لبنانية "تدعم الشذوذ والانحراف"، ودعوة واضحة للبنانيين لطرد هذه المؤسسات. طردها من أين؟ وإلى أين؟ لا جواب، فقط عبارة "ليس لهم مكان بيننا أطردوهم" تسبح في بحر من الفراغ واللاسياق.
مناسبة الملصق، مسيرة الحريات التي جابت بيروت يوم السبت، وانتهت بمشهد لا يشبه أي مشهد لبناني آخر. إذ اعتدت مجموعة من "جنود الفيحاء" أو "جنود الرب" أو أي جنود آخرين، على المسيرة: ركل وضرب وتهديد للمتظاهرين، ودماء تسيل من الوجوه. بينما وقفت العناصر الأمنية المولجة حماية المسيرة متفرجة على هذا الاعتداء، بلا حراك، قبل أن يختار بعض عناصرها الانضمام إلى الغاضبين والاعتداء على المشاركين في المسيرة، وعلى الإعلاميين. أراد الجنود إيصال رسالة واضحة "لن تكون بيروت مساحة للشواذ"، هكذا رددوا أمام الكاميرات.
كيف وصلنا إلى هنا؟ قد يكون الجواب الأكثر بديهية هو أنّ الأوضاع المعيشية الخانقة التي يعيشها اللبنانيون منذ عام 2019، تترجم بعنف عشوائي على الفئات المستضعفة أو المهمشة: النساء (قتلت منذ مطلع العام 12 امرأة، وتعرّضت 7 لمحاولة قتل)، والأطفال (جرائم اغتصاب وتحرش شبه يومية)، والعاملات والعمال الأجانب، ومجتمع الميم عين (المثليون والمثليات...)، وطبعاً اللاجئون واللاجئات (سوريون وفلسطينيون أولاً وأخيراً)، في ظل عجز أي لبناني عن محاسبة المسؤولين الحقيقيين عن أزمته، أي السياسيين والمصارف.
كيف وصلنا إلى هنا؟ قد يكون الجواب الأكثر بديهية، ليس بديهياً في الحقيقة. عام 2012، عرف لبنان واحداً من أزهى عصور الحرية. كانت رياح الربيع العربي تخيّم فوق المنطقة، وكانت الحياة السياسية في بيروت تتضاءل حتى قاربت الاختفاء، فتصدّرت القضايا الاجتماعية الشاشات. في تلك السنة والسنتين اللاحقتين، وللمرة الأولى وبعيداً عن ابتذال وإثارة البرامج الاجتماعية، ظهرت نساء معنّفات للحديث عن مآسيهنّ، ظهرت عاملات أجنبيات هاربات من جحيم التعذيب من المنازل التي يعملن فيها، ظهر مثليون ومثليات بوجوههم، وخرج سياسيون وأطباء ومحامون للدفاع عن حق كل هؤلاء بالعيش بأمان فوق الأراضي اللبنانية، وعن حق حماية كل مهمّش من العنف والتنكيل. للمرة الأولى، ظهرت صور رجال دين متهمين باعتداءات جنسية في لبنان، وظهرت صور ضحاياهم وشهاداتهم، للمرة الأولى سميت الأجهزة الأمنية المتهمة بتعذيب موقوفين في أقبيتها. ورغم غضب الغاضبين، لم تتراجع المؤسسات الإعلامية. بدا للحظة أن سقف الحرية سيواصل الارتفاع إلى الأبد.
كيف وصلنا إلى هنا؟ قد يكون الجواب الأكثر بديهية، هو الأكثر مأساوية. انهار السقف على الجميع. عام 2015، ومع اقتراب المعركة الرئاسية من خواتيمها، اختفت السياسة من لبنان. لا نقاشات ولا برامج، ولا حتى تراشق، تمّ تفريغ البلاد من سياستها، مقابل صعود شعبوية لا تحتمل. عادت البرامج الهزلية إلى عنصريتها، والبرامج الاجتماعية إلى ابتذالها، وعادت نشرات الأخبار إلى شد العصب. وبالتوازي مع الردة الدموية على الثورات العربية، خفت صوت القضايا الاجتماعية، لصالح خطاب موتور، لا هو سياسي ولا هو اجتماعي.
ثم جاء 17 تشرين الأول 2019، والانتفاضة. بدا الحدث أكبر من أن تدركه المؤسسات الإعلامية، ففتحت هواءها لأيام كاملة. قيل كل شيء، ولا شيء، هواء مفتوح لكل أنواع الخطابات. تسارعت الأحداث بوتيرة عجِز الإعلام عن مواكبتها: الإفلاس الكبير، انهيار العملة، تفشي كوفيد، انفجار المرفأ... ثمّ الهدوء، والهزيمة. غرق لبنان في الظلمة (حرفياً ومجازياً)، خلت الساحة من أي خطاب، وانشغل الجميع بالهم الاقتصادي، ورياض سلامة، والتراشق الكلامي.
وببطء تسلّل إلى المشهد الفارغ خطاب معاد تدويره منذ ستينيات القرن الماضي: اللاجئون والخطر الديمغرافي. تحريض مجاني، بلا أي نقاش حقيقي عن أزمة اللجوء السوري إلى لبنان، ولا حلوله، ولا كيفية الحفاظ على الكرامات الإنسانية. 
لكن عنصرية الخطاب لم تكن كافية لسد الفراغ، فتابعنا دينامكيات بناء صورة عدو جديد: المثليون. فبينما كانت الدولة بمؤسساتها وأجهزتها ومواطنيها تغرق في البؤس، تصدرت "قيم الأسرة" اللبنانية المشهد. هبّ الجميع، الجميع حرفياً من أحزاب وأجهزة ومؤسسات دينية، للدفاع عن العائلة في مواجهة المثلية. فتحت الساحات للعنف والتحريض ودعوات القتل. هكذا بهذا الوضوح، وبصمت تارة وتواطؤ تارة أخرى من المؤسسات الإعلامية الكبرى في البلاد.
كيف وصلنا إلى هنا؟ قد يكون الجواب الأكثر بديهية، هو أنّ لبنان بصورته القديمة، اختفى إلى الأبد، وأن هوية جديدة تتشكل. هوية لا تشبه ما عرفناه، حتى في أكثر عصور البلاد سوداوية.

المساهمون