لاتا مانغيشكار... الغيمة تُمطر آخر أغنياتها

13 فبراير 2022
ساهمت بحنجرتها في مداواة الجروح التي خلفتها الحرب الأهلية (إندرانيل موكيرجي / فرانس برس)
+ الخط -

غيمة من فرح، أو آناند غان. ذاك هو المعنى الحرفي لاسم مستعار اختارته لاتا مانغيشكار، لتعبر به إلى صناعة السينما الهندية، من بوابة الغناء وتلحين الأغاني لفيلم بعنوان "ساعدي مانساه" Saadhi Maansa من إخراج بالجي بندهاكار، وإصدار سنة 1965.

الاسم يوحي بهوية ذكر. أما لاتا مانغيشكار (1929 - 2022)، أو لاتا ديدي، كما ناداها عشاقها؛ فهي الأنثى، المغنية والمؤلفة الموسيقية الأشهر في الهند الحديثة، التي فيها، عُرفت بـ "عندليب الهند"، وفي عاصمتها مومباي، رحلت أخيراً (السادس من الشهر الجاري)، عن 92 عاماً، متأثرةً بتداعيات إصابتها بفيروس كورونا.

أحدث فيلم "ساعدي مانساه" علامة فارقة في تاريخ السينما الهندية. كما صارت أغنياته، بفضل لاتا مانغيشكار، على كلّ لسان ينطق باللغة الماهراتية الشائعة في إقليم ماهراشترا غرب شبه القارة. قبل ذلك، وعلى مدى عقد ونيف، كانت الموسيقية الشابة قد ألهبت قلوب الجماهير بحنجرتها السحرية كـ "مُغنية خلفية" (Playback) للأفلام الهندية، وبجميع اللغات المحلية الأخرى. وتلك وظيفة فنية خاصة تميّزت بها صناعة بوليوود، أي السينما الجماهيرية كما تُعرف في الهند، ثم صدّرتها إلى جميع أنحاء العالم؛ إذ تضطلع مُغنية أو مغنّ محترف بمهمة أداء المشاهد الغنائية صوتاً فقط، لتُسجّل مُسبقاً، فيما يقوم نجوم الأفلام بتحريك شفاههم أمام الكاميرات، كما لو كانوا يغنون.

لاتا، سليلة أسرة فنية على امتداد جميع الفروع. والدها صاحب بصمة خاصة ومؤسِّسة على المسرح الماهراتي. هو الذي يتحدّر من عائلة كانت بدورها قد احترفت الغناء الهندي التقليدي، أو ما يعرف هندياً بـ "الغناء الكلاسيكي". يُقال إنّ أحد المنتجين السينمائيين كان قد رفض تكليفها بأداء أحد الأدوار. حجته كانت في ما لمسه من رقة صوت زائدة عن العادة.

حين سمع غلام حيدر بذلك، وهو الموسيقي الهندي المعروف، وواحد من معلميها المقربين، دخل على ذاك المنتج مهتاجاً مستاءً يحذّره بأنه سيندم مستقبلاً على قصر نظره، وافتقاره إلى رؤية مكامن النبوغ الواعد وملامح النجاح القادم التي لدى المغنية الماهراتية الشابة. وأنّ يوماً سيأتي، يسجد فيه أمام قدميها، راجياً إياها أن تقبل الغناء في أحد أفلامه.

ولقد ثبت أنّ رؤية حيدر إزاء مستقبل مانغيشكار كانت صائبة. تلك الرقة، وذلك الارتفاع الحاد في طبقة الصوت لديها، ستغدو ولعقود قادمة الهوية الصوتية الأكثر اختراقاً، ليس لسينما بوليوود برمتها فحسب، بل للموسيقى الهندية على وجه أعم. ليس في الهند وحدها، وإنما في الجوار الثقافي الممتد من أفغانستان، غرب آسيا، إلى المغرب أقصى شمال أفريقيا.

ملايين من محبي السينما الهندية، أسرهم صوت مانغيشكار، ليجذبهم إلى قصص غرائبية أبطالها خارقون، لكنهم في الوقت نفسه بسطاء حقيقيون، يشبهونهم في الثقافة ولون البشرة، وفي خوضهم غمار الحياة العادية. فتماهت بهم العامة في الشرق، من دون حتى أن تفهم في غالب الأحيان اللغة التي كانت تغني لهم بها لاتا.

في بعض المرات، أخذ رواج الأغاني وشهرتها بين الناس يتجاوز نجاحات الأفلام ذاتها؛ إذ إنّ الفيلم الذي لا يفلح في حصد ما يكفي من المبيعات من على شبابيك التذاكر، كانت تُرسل أغانيه إلى محطات الراديو التي راجت إبان تلك الآونة، لكي تُبثّ في أصقاع الهند موجّهةً إلى الملايين المستمعين، ما ساهم قليلاً في تعويض العجز عن جني الأرباح. بهذا، بدلاً من أن يكون الفيلم هو المتن لأغنيات لاتا، باتت لاتا بشعبية أغانيها وحسن أدائها، هي المركبة التي تصل بالفيلم إلى قطاع أوسع من الجمهور.

قبل أن يفلت صوتها من قيود الهوية المحلية، ويطير بالثقافة الهندية نحو هويات أخرى مجاورة، ساهمت لاتا بحنجرتها في مداواة الجروح التي خلفتها الحدود المنبثقة عن تقسيم شبه القارة بين الهند وباكستان في أعقاب الاستقلال عن التاج البريطاني، وحمام الدم الذي صاحبه جراء الاحتراب الأهلي بين الهندوس والمسلمين. أغنيات فيلم "آنداز" (Andaz)، الصادر سنة 1949، والتي سجلتها مانغيشكار حين لم تزل في العشرين من عمرها، كانت قد نجحت في تهدئة المشاعر الملتهبة ثأراً على طرفي الشرخ الديني والاجتماعي الحاد والعميق. الأمر الذي جعل منها بطلاً قومياً لدى كلّ من الهويتين المتنازعتين، على طرفي الحدود، ولدى كلّ من الدولتين الناشئتين.

كغيرها من قمم الغناء النسائي حول العالم، كـ أم كلثوم في مصر مثلاً، أو ميريام ماكيمبا من جنوب أفريقيا، من بين أولئك اللاتي صعدن عتبات الفن قبيل الوثبة التكنولوجية في وسائل الإنتاج الصوتي، خلال عقد التسعينيات ثم الألفية الثالثة، ظل الإتقان الأدائي بالنسبة لـ لاتا سمة أساسية، سواءً لنظافة الغناء، أو لمجمل السلوكيات المرتبطة بالمهنة.

لم تكن الرقمنة قد اقتحمت بعد استوديوهات التسجيل، موفرة طرق تصحيح الطبقة الصوتية إلكترونياً، أو مدها بالمحسنات والمجوِّدات الصناعية. كانت الجودة تقع على عاتق الفنان وحده. حتى إمكانية إعادة التسجيل برمته، أو القص واللصق في مواضع معينة بغية تنقيح المنتج النهائي، ظلت إما غير متوفرة، إلّا في أوروبا والولايات المتحدة، أو باهظة التكلفة. الأمر الذي حتم على المغنية العناية بكلّ نغمة والاجتهاد في تحضير كلّ جملة خالية من النشاز، وتحصين كلّ أغنية إزاء احتمال أيّة زلة أو هفوة.

 

 

مثّل صوت لاتا، ذو المدى الواسع بطبقاته الأربع، أداة درامية مثالية للسينما؛ إذ كان بوسعها، كمغنية خلفية، أن تجسّد صوتياً طيفاً متنوعاً من الشخصيات، سواءً لجهة الفئة العمرية، من الصبا إلى الرشد، أو لجهة السمة السيكولوجية، كالمكر أو البراءة.

لئن كان لـ مانغيشكار بضعة ظهورات سينمائية في بداية عهدها، إلّا أنّ الأضواء لم ترق لها. لم ترغب ببريق النجومية، وبمساحيق تجميل تكسو بشرتها السمراء. وإنما وجدت في الغناء من كواليس الأفلام موقعاً ملائماً، تخدم انطلاقاً منه بتواضع المُريد ما ظل بالنسبة إليها أبعد من كونها مهنة أو وسيلة للتعبير. فالموسيقى بالنسبة لـ لاتا، وللهند عموماً، بفرعي الغناء والعزف، هي ممارسة دينية في الأساس، تنشد دروباً روحية في سبيل الخلاص والغفران. ففي الهند، من ملك الأذن الصاغية والصوت الحسن، كان كمن ملك مفاتيح الأرض والسماء.

المساهمون