أربع مجموعات من الشخصيات تحضر في المُنجز السينمائي الإسرائيلي عن "حرب أكتوبر" (1973): سياسيون منشغلون باتّخاذ القرارات المصيرية، وتوقّع انعكاساتها على الرأي الدولي وتوازنات المنطقة، في ظلّ التجاذبات بين الولايات المتحدّة الأميركية والاتحاد السوفييتي، في عزّ الصراع بينهما للتحكّم بالشرق الأوسط؛ رجال استخبارات يسعون إلى تمحيص المعلومة الموثوق بها من المشكوك بأمرها، لتفادي توريط السياسيين في قرارات متسرّعة أو خاطئة، ربما يدفعون ثمنها تنازلات فادحة؛ قادة الجيوش الممزقون بين ضرورات الاستراتيجية الحربية والفرص/الإكراهات التي تنتجها، واللّجام الذي يفرضه السياسيون على تحرّكاتهم، بغية الحفاظ على دعم شركائهم، وتجنّب تأليب الرأي العام الدولي ضدّهم؛ وأخيراً الجنود، الحلقة الأضعف التي تدفع ثمن الحرب من دمائها وأرواحها في جانبي الصراع.
قطبان تجاذبا هذه الأفلام: الأوّل ذاتي وحسّي، يسعى إلى تمثّل أجواء الحرب في الساعات الأولى لاندلاعها، ووقع الصدمات الارتدادية التي تلتها على نفسية الإسرائيليين، ما يجعله قريباً من الجنود، ومن رجال الاستخبارات والقادة العسكريين بدرجة أقلّ؛ والثاني تحليلي، يبغي استيعاب أسباب التأخّر في إصدار ردّة فعل في الزمن الموءاتي، بناءً على المؤشرات الاستخباراتية الواضحة التي كانت تحذّر من قرب نشوب الحرب، فيركز أساساً على السياسيين وقادة الجيوش، مع لمحات استخباراتية.
قريباً من التحليليّ، هناك "غولدا" (2023)، للإسرائيلي غاي ناتيف، المُشارك في برنامج "برليناله غالا"، في الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي" (إنتاج بريطاني، وكتابة نيكولاس مارتن)، الذي يتناول إدارة غولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية (1969 ـ 1974) ملف "حرب أكتوبر". رغم تلافي السيناريو التشتّتَ، عبر حصر نطاق الحكي في الأسابيع الثلاثة الحاسمة في الحرب، مع مقاطع من جلسة استجواب مائير في إطار "لجنة أغرانات"، المُشكّلة لمعرفة أسباب التقصير الذي وسم أداء الجيش الإسرائيلي في الأيام الثلاثة الأولى، فإنّ طرح الفيلم ظلّ مشدوداً إلى خيط الأحداث وتلاحقها (كسائق مبتدئ، لا يرفع نظره عن المِقود)، غير قادر على النّفاذ إلى حقيقة شخصيته الرئيسية، والصراع الذي يعتمل فيها، ليكتفي ـ كأفلام بيوغرافية عدّة في السنوات القليلة الماضية ـ بفرد منصة لممثلته الرئيسية هيلين ميرين، استعرضت عليها طاقاتها الكبيرة في التقمّص والأداء.
لكنْ، هناك سطحيةٌ في الكتابة: المبالغة في التركيز على عادة التدخين الشره لمائير، والحوار الملتصق بوصف الحبكة في أغلب المقاطع (أثقلها مَشاهد قاعة متابعة العمليات)، والشخصيات الثانوية التي جاءت جوفاء ومفتقرة للبعد الإنساني، ونسق اليوميات الذي ما يفتأ يكسر الإيقاع حين يذكر في كل مرة بعدّاد أيام الحرب. هذه كلّها عوامل ساهمت في اقتراب "غولدا" من وثائقيات إعادة التمثيل، رغم العمل الرائع لنيف أديري في مزج الصوت.
الهنّة الرئيسية لهذا العمل أخلاقية الطابع، حيث سعى إلى حصر معضلة مائير في إحساس الذنب بتأخّر ردّة فعلها، ورفضها اقتراح توجيه ضربات استباقية، أو استنفار عددٍ كافٍ من قوات الاحتياط، مُغيّباً مسؤوليتها المعنوية في تهيئة الأجواء الممهّدة للحرب، حين واجهت، في تناغم مع وزيرها في الدفاع موشي ديان، بالرفض القاطع، كلّ عروض الرئيس المصري أنور السادات للجلوس إلى طاولة المفاوضات، وتحديد جدول زمني لانسحاب إسرائيل من أراضي سيناء.
تفصيل مهم قفز عليه الفيلم بلقطات أرشيفية خاطفة، وهذه طريقة مشبوهة تتكرّر في أفلامٍ إسرائيلية عدّة حول "حرب أكتوبر"، تُموّه بالتمهيد لسياق الحرب من دون أن تقول شيئاً عن السؤال المركزي: لماذا أحجمت غولدا مائير عن الاستجابة لعروض التفاوض، فلم تلق يد السادات الممدودة لأربع سنوات كاملة سوى الأذان المسدودة من الحكومة الإسرائيلية، ولغة التماطل من الإدارة الأميركية؟ كان حلّ التفاوض ليحقن دماء الضحايا من الجانبين، ويكفينا عناء مشاهدة النفاق السمج في المشاهد التي تظهر غولدا مائير في فيلم ناتيف، وهي تخرج في كل مرّة دفتراً صغيراً من حقيبتها اليدوية، لتدوّن عليه عدد الجنود الإسرائيليين الذين سقطوا في المعارك، بدعوى حرصها على حياتهم.
يُقدّم الفيلم، في المشهد الأخير، رئيسة الوزراء على فراش موتها، بينما يظهر التلفزيون صُوَر اتفاقات كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل، عام 1978، مُلمّحاً إلى أنّها من مهّدت لتوقيعها، بينما هي فعلت كلّ شيء لتتلافى السلام مع جيرانها.
في سبتمبر/أيلول 2018، عرضت "نتفليكس" فيلم "الملاك" لأريئيل فِرومن، عن سيناريو كتبه ديفيد أراتا (أبناء الرجال) باقتباس عن مؤلف أوري بار ـ جوزيف "الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل". فيلمٌ حول شخصية حقيقية أخرى مثيرة للجدل، طبعت تأثيراً كبيراَ على "حرب أكتوبر": أشرف مروان، صهر جمال عبد الناصر، ومستشار أنور السادات في العلاقات الخارجية.
تتضارب الروايات حول الدور الذي لعبه مروان في الحرب. بين من يعتقد أنّه جاسوس لإسرائيل، ومن يميل إلى أنّه عميلٌ مزدوج للطرفين. الثابت أنّه، اليوم، بعد 15 عاماً على موته في ظروف غامضة، لا يزال يُعتَبر بطلاً قومياً في مصر وإسرائيل.
انحياز الفيلم إلى فرضية العميل المزدوج، الذي سعى إلى تحقيق نوع من التوازن الاستخباراتي بين الطرفين لأهداف السلام، يبدو مُغرقاً في المثالية، ويعوزه الإقناع. العمل، عموماً، خرج بحبكة مهلهلة، فلم يبق مخلصاً لحقيقة الأحداث، ولا نجح في التسامي بالتخييل، ليقبض على غموض شخصية مروان، الذي بدى مهزوزاً وذي دوافع تعوزها الصدقية. النتيجة: فيلم جواسيس مُفكّكك ومتوقّع، عبارة عن نسخة جدّ متدنّية من سينما طارق صالح، تجهد في خلط الأوراق وافتعال التقلّبات الدرامية، فلا تضخّ في النهاية سوى توتّراً مصطنعاً.
في التيار الذاتي، فيلمٌ منجز عام 2016، بعنوان "حالوميم" ("حالة صدمة"، أو "تحت الصمت" عنوانه الدولي) لإريز مزراحي وشاهر شافيت: ميناش جنديٌ يُصاب بحالة اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، بعد مشاركته في "حرب الأيام الستة" (1967)، فتعاني عائلته عواقب غيابه وسلوكه الغريب، وتقاسي زوجته لانتزاع اعتراف من الجيش بارتباط حالته بمخلّفات الحرب على نفسيّته، إلى أنْ اندلعت "حرب أكتوبر"، لتفتح ندوبه مجدّداً. يُقدّم الفيلم ميناش على أنّه ضحية للنظام الذي أرسله إلى الحرب، والمجتمع الذي لا زال يرى في حالة الاضطراب التي تمسّ الجنود "تابو" ينمّ عن ضعف من يُقرّ به.
عام 2000، أخرج أموس غيتاي "كيبور"، أحد أجمل أفلام الحرب (وليس عن الحرب) في القرن الواحد والعشرين. بشكل مفارق، يستعين المخرج بتجربته الذاتية كمجنّد سابق في "حرب أكتوبر"، ليتّخذ مسافة مع أحداثها، بمعناها السياسي والتاريخي، ويعانق الحقيقة الإنسانية لكلّ الحروب. بعد لمسة تجريدية، نتابع من خلالها مشهد حبّ غير اعتيادي بين فينروب ومحبوبته، يختفي فيه تدريجياً جسداهما تحت الصباغة الزيتية، تندلع الحرب، ويستقلّ فينروب سيارته الخاصة رفقة زميله روسو، للالتحاق بكتيبتهما على جبهة الجولان السوري المحتلّ. يستعين غيتاي بجمالية المشهد الطويل، ليضعنا في أجواء التخبّط الذي تلا الاستنفار، فنعيشها بعيون المجنّدَين، سواء من داخل السيارة في مشهد الاختناق المروري المُربك، أو في بحثهما غير المجدي عن الكتيبة، قبل أنْ يلتقيا صدفة الدكتور كلاوزنر، فيقرّران الالتحاق معه بفريق إسعاف الجرحى.
في مشهد بديع، يورده غيتاي ببراعةٍ مباشرةً بعد حكي فينروب لروسو عن كابوس قضّ منامه، فلا نعلم هل نحن بصدد حلم أو حقيقة، يحاول فينروب وزملاؤه في فريق الإسعاف نقل جريح من دبابة إلى طائرة الهليكوبتر، عبر منطقة موحلة، فتفشل محاولاتهم للخروج منها. تعلق أقدامهم في الوحل، واحداً تلو الآخر، ويسقط الجريح من منضدة الإسعاف، فيلتقطونه ليتقدّموا بضع خطوات، قبل أنْ تعلق أقدامهم مجدّداً، ويسقط الجريح مرة أخرى. يدوم المشهد على هذه الشاكلة أكثر من 5 دقائق (تبدو كأنّها الدهر كلّه)، حتى يفقد أحد الجنود صوابه، فيمسك برأسه مُردّداً كمن مَسّه الجنون: "أداما... أداما" (الأرض... الأرض).
مشهدٌ سيزيفي، لا تبادل إطلاق نار صاخب، أو أشلاء مضرّجة بالدماء فيه. فقط جنودٌ يتخبّطون في الأرض الموحلة نفسها، التي يقاتلون من أجلها، لكنّه ينطوي على تجلّ عظيم يقول كلّ شيء عن مستنقع الشرق الأوسط، كما خلقته سياسة إسرائيل العدوانية والاحتلالية تجاه جيرانها أولاً، والرؤى الضيقة والمتجاوزة للصراع من الطرفين، العربي والإسرائيلي، ثانياً. رؤى تجرّ الخلاف إلى المعترك الديني، لتحشره في أجندات تنهل من خرافات نهاية العالم، وتتغذّى على الكراهية وسفك دماء الأبرياء على أعتاب الكهنوت.
وحدهم الموتى يشهدون نهاية الحرب، كما نُسب إلى أفلاطون، ما دامت الأرض أرضاً، والإنسان إنساناً.