مع بدء معارك أكتوبر 1973، فوجئ رئيس الإذاعة المصرية، محمد محمود شعبان (بابا شارو)، باتصال هاتفي من المخرج يوسف شاهين، يخبره بأن لديه أغنية عن النصر الذي حققه الجيش، جاءت ضمن فيلمه الممنوع من العرض وقتها "العصفور"، ليأمر شعبان بإذاعتها على الفور، وتكون أغنية "رايات النصر" من كلمات نبيلة قنديل وألحان علي إسماعيل أول أغنية تبث عن انتصار أكتوبر.
في تلك الأيام، تقاطر الفنانون على الإذاعة المصرية أفواجاً، رغب الجميع في أن يمد أواصر الصلة مع الحدث الجلل الذي وقع على حين غرة بعد طول انتظار، وكان الأسبق في ذلك بليغ حمدي الذي وقف على باب الإذاعة، مع زوجته المطربة وردة، يبكي ويصرخ إثر منعه من الدخول لظروف الحرب، إلى أن سمح رئيس الإذاعة بدخوله. وبسبب عدم رصد ميزانية لتسجيل أي أغان حول النصر المفاجئ، تعهد الموسيقار بتحمل أجور الموسيقيين الذين سيشتركون معه في الإعداد للعمل المزمع إطلاقه.
التقط بليغ حمدي هتاف الناس في الشوارع: "بسم الله، الله أكبر"، بعد سماعهم أخبار عبور جيشهم القناة وتحطيمه خط بارليف، ليكلف صديقه الشاعر عبد الرحيم منصور باستعمال الهتاف مدخلاً للأغنية. كتب منصور كلماتها على الفور، وسُجلت وأذيعت خلال 24 ساعة. أثناء ذلك، استعان بـ15 من موظفي التلفزيون وعماله، ليؤدوا النشيد الأشهر بعد تدريبهم عليه سريعا، إثر تعذر الاستعانة بأحد من خارج المبنى بعد تشديد الإجراءات الأمنية بسبب الحرب.
ومن افتتاحية كتبها توفيق الحكيم في صحيفة الأهرام تحت عنوان "عبرنا الهزيمة"، استوحى عبد الرحيم منصور كلمات أغنيته التي جاءت بنفس الاسم وغنتها شادية، ولحنها بليغ صاحب الاقتراح بتحويل المقال إلى أغنية.
ومن مقال آخر، لكن هذه المرة لمحمد حسنين هيكل، استوحى الشاعر محمد حمزة كلمات أغنيته "عاش اللي قال" لعبد الحليم حافظ، والتي تدخل الرئيس أنور السادات لحذف أحد مقاطعها بعدما علم أن اسمه ورد فيها. وللعندليب الأسمر كذلك أغان أخرى ارتبطت بنصر أكتوبر، وإن قدمها قبل الحرب بسنوات، مثل "خلي السلاح صاحي" (1968) من كلمات أحمد شفيق كامل وألحان كمال الطويل، و"البندقية اتكلمت" (1969) من كلمات محسن الخياط وألحان بليغ حمدي، و"ابنك يقولك يا بطل" من كلمات عبد الرحمن الأبنودي وألحان كمال الطويل (1967).
عشرات الأغاني انهمرت من خلال البث الإذاعي بالموازاة لزخات الرصاص على الجبهة، وجاء في مقدمة هذه الأعمال "على الربابة" لوردة، ألحان بليغ حمدي وكلمات عبد الرحيم منصور، كواحدة من أهم وأجمل ما أطلقته هذه الأيام.
تحكي ابنة الشاعر أن والدها بعد أيام قضاها في الإذاعة أثناء تسجيل نشيد العبور "بسم الله، الله أكبر" عاد إلى منزله، ليفاجأ بزيارة بليغ حمدي له، ويدور بين الاثنين حديث يعبر فيه منصور عن رغبته في الوجود، بتلك الأيام، في مسقط رأسه في الصعيد، ليسأله حمدي عما سيفعله إذا ما حدث ذلك، فرد منصور أنه كان سيمسك ربابة ويطوف يغني بها في شوراع مدينته. عندها، طلب منه بليغ حمدي أن يمسك بدل الربابة قلما ليكتب ما عبر عنه في التو شعرا.
هناك أيضاً أغنية "أم البطل" لشريفة فاضل، التي حققت نجاحا كبيراً، وحملت كلماتها شحنة وجدانية هائلة مست كل أسرة فقدت ابناً من أبنائها شهيدا في تلك الحقبة. جاءت الأغنية تعبيراً عما كان يجيش في نفس صاحبتها بعد استشهاد ابنها خلال أحد التدريبات، فحرضها هذا على العزلة لأشهر، طلبت بعدها من الشاعرة إيمان قنديل أن تحضر لمقابلتها، حتى تكتب لها أغنية تخلد تضحية كل أم في حرب التحرير، وفي حجرة الشهيد كتبت قنديل: "ابني حبيبي يا نور عيني... بيضربوا بيك المثل... كل الحبايب بتهنيني... طبعا ما أنا أم البطل..."، ليلحن تلك الكلمات زوجها الموسيقي علي إسماعيل.
وأثناء تسجيل الأغنية، دخلت المطربة في نوبات بكاء متكررة وسقطت مغشياً عليها مرات، ليتوقف التسجيل مع كل مرة، لكنها أصرت على استكماله. وفي كل حفلة غنت فيها فاضل "أم البطل"، كانت تدخل بعدها في نوبة بكاء حادة حتى نصحها الأطباء بالتوقف عن غنائها.
وبوصفها الشكل الفني الأسرع والأقوى في التعبير عما كان يجيش في نفوس الجماهير من مشاعر جارفة، فقد اجتذبت الأغنية، خلافا لأهل المغنى، اسم مثل سعاد حسني، التي تقدمت للمسؤول الإذاعي وجدي الحكيم بأغنية "دولا مين ودولا مين"، لتكشف له بعدما أعجبته الكلمات أنها لأحمد فؤاد نجم، الذي خشي من رفض الحكيم فقدمها من خلال سعاد حسني، وأذيعت بعدها بلحن كمال الطويل، لتمسي واحدة من أكثر أغاني أكتوبر نجاحاً.
وإلى جانب أغنية سعاد حسني، كان هناك موال لشكوكو اتسم بخفة الظل، وإن لم يعد أحد يتذكره نظراً لعدم إذاعته، وغنى فيه الممثل الاستعراضي "مغرم صبابا يا بابا بتلات ستات، بستة أكتوبر وسام ست وست ساعات...".
هناك أيضاً المطربة شهرزاد التي ذهبت إلى الإذاعة وهي في حالة صحية سيئة، لكنها أصرت على تسجيل أغنية "سمينا وعدينا" من كلمات علية الجعار ولحن عبد العظيم محمد، الذي استوحى مقدمته الموسيقية من الأذان في إشارة إلى ارتباط الحدث بشهر رمضان.
ومن الأغاني التي لاقت نجاحا وقتها، وإن تعثرت في سوء حظها بعد ذلك، بسبب ضعف إذاعتها أغنية "لفي البلاد يا صبية" لعبد الحليم حافظ، من كلمات محسن الخياط وألحان محمد الموجي. كذلك أغنية "رايحة فين يا عروسة يا أم توب أخضر" لشادية، من كلمات نبيلة قنديل وألحان علي إسماعيل، و"قومي يا مصر" لعبد الحليم حافظ والمجموعة من كلمات عبد الرحيم منصور وألحان بليغ حمدي، و"حقك معاك" غناء المجموعة وكلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان بليغ.
وإلى جانب هذه الأعمال، كان هناك أيضا "يا قمر خدني لحبيبي" لعفاف راضي من كلمات نادر أبو الفتوح وألحان بليغ حمدي، و"يا مصرنا يا حرة" لمحرم فؤاد من كلمات فتحي سعيد وألحان محمد الموجي، و"صوت المعركة" لفايدة كامل من كلمات بخيت بيومي وألحان محمود الشريف، و"صوت المآذن" لنجاح سلام من كلمات أحمد عثمان المراغي وألحان أحمد صدقي، و"يا صباح النصر يا مصريين" لفايزة أحمد من كلمات صالح جودت وألحان محمد سلطان، و"صبرنا وعبرنا" لفرقة ثلاثي النغم والمجموعة من كلمات كمال عمار وألحان محمود الشريف.
تدفقت إلى الإذاعة في تلك الأيام كتائب من الشعراء الغنائيين والملحنين والمطربين، مطلقين عشرات الأغاني، منها ما أصاب الهدف وما زالت الإذاعات تستدعيه في المناسبات الوطنية حتى اليوم، ومنها ما نُسي وربما لم يعد يذاع. لكن كثيراً من تلك الأعمال حمل قيمة فنية عالية، إذ صادفت هذه الحقبة قمم في مجالات الغناء والتلحين والكلمات لتحتشد في تلك المناسبة الوطنية، وتقدم أعمالاً تستحق الاحتفاء مثلما تستحق تسجيل سيرتها.