اختارت المخرجة الأوكرانية مارينا إِرْ غورباتش (1981)، في فيلمها الروائي الطويل "كلوندايك" (2022)، فضاءً مكانياً وزمانياً مُحاطاً بأسئلة وتأويلات عدّة، يتمثّل بقرية أوكرانية، سقطت فيها الطائرة الماليزية في 17 يوليو/تموز 2014، وراح ضحيتها 280 مسافراً، بينهم 15 فرداً من طاقمها، بالقرب من مدينة "شاختارسك"، في منطقة "أوبلاست دونيتسك" (شرق أوكرانيا)، حيث كانت تدور معارك طاحنة بين انفصاليين موالين ومدعومين من روسيا، والقوات الحكومية الأوكرانية.
هذه الحادثة الأليمة أثارت العالم حينها، وكثرت التكهّنات عن السبب الحقيقي الذي أدّى إلى تحطّم الطائرة. لكنّ "كلوندايك" ـ المشارك في "القسم الرسمي، خارج المسابقة" للدورة الـ44 (13 ـ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" ـ تناولها كهامشٍ/قصة ثانوية، قبل أنْ يتحوّل الهامش إلى متن، لأنّ إِرْ غورباتش عرفت كيف تنسج خيوط قصتها (كتبت السيناريو أيضاً)، وعرفت كيف تتّهم الانفصاليين، وتثبت عرضاً أنّهم كانوا سبب الحادث، بإطلاقهم صاروخ أرض جو من نوع "بوك" (سوفييتي الصنع).
كما استطاعت، في خضم هذا كلّه، صوغ قصة إنسانية للغاية، نقلت مآسي الحروب وأحزانها، وكيفية وقعها على الأفراد والمجتمعات، خاصة المهمّشين الذين لا يُرَون عادة من الجهات المتطاحنة فيما بينها، الذين يعيشون على أطراف القرى والمدن والحدود. هؤلاء، بالنسبة إلى الجهات المتطاحنة، مجرّد أرقام إحصائية فقط، وهم الذين اختارتهم إِرْ غورباتش شخصيات/نماذج، استوحتها (كما تقول في بداية الفيلم) من أحداث حقيقية. شخصيات عادية وبسيطة، وغارقة في الألم والفَقد والضغط والحزن. معطيات سوداء، أنتجتها ظروف المواجهة المسلّحة، وأطماع التوسّع، لخلق مساحات أكبر للنفوذ وبسط السيطرة.
تتلخّص قصة "كلوندايك" (أي "حفرة الجدار") في وقع الحرب على أسرةٍ تعيش على الهامش، في قرية معزولة ومتباعدة المساكن. إِرْكا (أوكسانا تشيركاشينا)، التي توشك على الإنجاب، تعيش مع زوجها توليك (سيرغي شادْرِن) المتعاطف مع الانفصاليين، وفي الوقت نفسه يعاني تسلّطهم وعنجهيتهم. هناك ياريك (أولغ تشيربينا)، شقيق إرْكا، الذي يزورهما بين حين وآخر، محاولاً إقناعها بالسفر معه إلى مدينة أخرى، يسيطر عليها النظام الأوكراني، الذي يحارب معه، من دون معرفته بأنّ توليك مع الانفصاليين.
لذا، تقع بينهما مواجهة مصيرية لاحقاً. لكنْ، قبل هذا، أصبح الزوجان يعيشان قلقاً رهيباً، لا من إفرازات الحرب وخطورتها، بل من سيارة الزوج، التي أخذها صديقه الانفصالي سانيا (أولغ شيفتشوك) رغماً عنه، تاركاً إياه بلا وسيلة نقل، لأخذ زوجته إلى المستشفى، مع اقتراب موعد إنجابها. هكذا، تتحوّل حياة الأسرة إلى جحيمٍ، خاصة أنّ منزلهما تعرّض لقصفٍ عن طريق الخطأ، وأصبح جزءاً منه بلا جدار.
اختارت مارينا إير غورباتش مشهداً عبثياً لافتتاح فيلمها، انعكس في شاشة سوداء تبثّ حواراً مُقتضباً بين الزوجين. تسأل إرْكا: "هل تعرف ما أحلم به؟"، يجيبها توليك، مُتعجباً ومُستفهماً: "بماذا تحلمين؟". تقول: "عندما ينتهي كلّ شيء (تقصد الحرب)، سنضع نافذة كبيرة مكان فتحة الجدار"، فيُكمل توليك الحلم قائلاً: "كبيرةٌ جداً، كما يفعلون في أوروبا".
عَكس المشهد ذروة العبثية، التي يمكن أنْ تحصل في الحرب، وكيف تتحوّل الكوابيس إلى أحلام، والأحزان إلى أفراح، لمُعاكسة الحاضر وتفاصيله المؤلمة، خاصة أنّ هذا سلاحٌ وحيدٌ لمواجهة مرارة الحاضر ومآسيه. إرْكا صنعت من القبح جمالاً. لم تنظر إلى فتحة الجدار كتهديدٍ لها ولأسرتها من البرد والرياح والرصاص والصواريخ، بل إلى ما يُمكن أنْ تكون عليه مُستقبلاً، عندما يولد الجنين، الذي تحطّمت عربته الصغيرة في القصف. لكنْ، رغم صلابتها، انهارت إرْكا عندما علمت أنّ زوجها يدعم الانفصاليين، وأصبح واحداً منهم، بعد أنْ سلّموه بدلة عسكرية.
بالنسبة إليها، هؤلاء مجرمون وخونة وعملاء. إنّها النظرة القوية نفسها التي يحملها أخيها ياريك، الذي قبض عليه زوجها وقيّده وسجنه في قبو المنزل، من دون علمها. المفاجأة تحصل مع المواجهة الحتمية بينه وبين جماعة أخرى من الانفصاليين، القادمين من الشيشان: أخبرهم أنّه معهم في الخندق نفسه، وأعطاهم كلمة السر. تصادف هذا مع مخاض زوجته، لكنّهم أصرّوا على أنْ تُعدّ لهم الأكل، ليكتشفوا لاحقاً أخيها، الذي حاول الفرار. تتعقّد الأمور، وتُصبح مأسويةً ومُظلمة. أكثر من ذلك، يولد الطفل على وقع الرصاص، على أريكة نصفها في البيت، وتُطلّ على الخارج.
مرّرت مارينا إِرْ غورباتش رسائل سياسية وأمنية عدّة، كتثبيت تهمة إسقاط الطائرة على الانفصاليين، وإظهار عدم انسانيّتهم ونظرتهم إلى الواقع الأوكراني. هذا كلّه بطريقة خالية من المباشر والخطابية، إذْ مرّرت تلك الرسائل بذكاء، كمرور شاحنات الصواريخ على هامش مشهد، وحمل أجزاء من الطائرة الماليزية ليلاً، كدلالةٍ على الغموض ومحاولة التلاعب بالأدلة.
إضافة إلى طريقة تعاملهم مع البسطاء، خاصة عندما قايض سانيا، الذي يُعتبر الصديق المقرّب من توليك، بأن يذبح الأخير لجماعته بقرته الوحيدة، في مقابل استعادة سيارته.
هذا أحد المشاهد التي تجعل المتلقي يتّخذ موقفاً سلبياً من هذه الجماعة. هناك أيضاً تعاون ياريك (الموالي لأوكرانيا) مع توليك (الموالي للانفصاليين) في بناء جدار البيت، وهذا مشهد قوي، يُحيل إلى ما بعد الخراب، لأنّ أبناء الوطن الواحد، مهما اختلفوا، يبنون مُجدّداً أوكرانيا المهدّمة، والأجنبي (المجموعة الشيشانية) سيعود إلى وطنه، تاركاً الخراب وراءه. فالشيشانيون مرتزقة، يحاربون في بلدٍ غير وطنهم، ويدافعون عن قضية ليست قضيتهم. إنّهم ينفّذون أجندات سياسية، فقط. ليس أدلّ على ذلك من حدثٍ، في المشاهد الأخيرة: رفض الزوج والنسيب أنْ يقتل أحدهما الآخر، مُوجِّهَين السلاح إلى العدو الخارجي، وقتله. إنّها دعوة صريحة إلى التكاتف والتلاحم، وهذا معطى تأويلي واضح يُقدّمه "كولندايك".
"كلوندايك"، المعروض في "بانوراما" الدورة الـ72 (10 ـ 20 فبراير/شباط 2022) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، ضاج بالأحاسيس والانفعالات، ومُفعم بالحب والأمل. يرسم أبعاداً مختلفة لإفرازات الحرب ومآسيها، استطاعت إرْ غورباتش أنْ تضع فيه أحزانها الشخصية، وشجون بلدها الواقع في الحروب. كما طوّعت السينما، وجعلتها وثيقة، أرشَفَتْ عبرها صفحة مهمة من التاريخ الحديث لأوكرانيا، مُقدّمة هذا كلّه برؤية جمالية وفلسفية، عكستها في طريقة المعالجة الذكية، والصُوَر الخارجية المختلفة، والمناظر الطبيعية.