توفيّ أبو الغيط في 5 ديسمبر/ كانون الأوّل 2022 عن 34 عاماً، بعد صراع مع السرطان، تاركاً زوجة وابناً وحيداً، والكتاب الصادر عن دار الشروق في القاهرة الذي سطر فيه رحلته مع المرض الخبيث بأسلوب أدبي رقيق، ليضيف إلى المكتبة العربية إصداراً جديداً جديراً بأن يصنف ضمن "أدب المغادرين".
وكان عددٌ من الأدباء والشعراء قد سبقوه في تدوين سيرهم الذاتية أو خواطرهم بعد علمهم بإصابتهم بالسرطان، أمثال الشاعر الفلسطيني حسين البرغوثي في "سأكون بين اللوز" عام 2004، والناقد المصري سيد البحراوي في "في مديح الألم" عام 2016، والروائية المصرية رضوى عاشور في "أثقل من رضوى" عام 2013، والبرلمانية المصرية أنيسة حسونة في "بدون سابق إنذار" عام 2017، وغيرهم العشرات.
أمّا أبو الغيط الذي تخرج من كلية الطب قبل أن يتحول إلى العمل بالصحافة، فقال عن تجربته: "أكتب لأن الكتابة هي أثري في الحياة، هي أهراماتي الخاصة، فإلى متى ستبقى منتصبة بعدي؟ الكتابة هي محاولتي لمغالبة الزمن والموت بأن يبقى اسمي أطول من عدد سنوات حياتي التافهة مقارنة بعمر الكون الشاسع المقدر حاليا بـ14 مليار سنة. أعرف أني مهما عشت، فإن حياتي، والعالم كله، كذرة غبار لا تُرى على شاطئ ذلك الكون الفسيح. لكن الكتابة قد تجعل ذرتي ألمع بين باقي الذرات على الأقل... هذه صيحتي: محمد أبو الغيط مرَّ من هنا!".
يسرد الكتاب في 315 صفحة رحلة مؤلّفه منذ تشخيص إصابته بالسرطان منتصف عام 2021، ثمّ خضوعه لجراحة كبيرة جرى خلالها استئصال المعدة بالكامل والطحال وجزء من البنكرياس، ومحاولاته المضنية للتشبث بالحياة في مواجهة مرض يأبى أن يغادر جسمه رغم تلقيه أنواعاً وأشكالاً تقليدية وأخرى تجريبية من العلاجات.
يتنفس القارئ شهيقاً وزفيراً مع المؤلف كأنّه يلازمه على سرير المرض، تنفرج أساريره كلّما أحرز تقدماً في علاج جديد، ويغتمّ مع كل انتكاسة تعيده خطوات إلى الوراء، لتتبدد المقولة الأشهر التي يحتمي خلفها معظم البشر عند مواجهة ابتلاء كبير مثل الذي أصاب أبو الغيط "يحدث هذا للآخرين فقط".
وبقدر ما يفرط الكتاب في وصف تفاصيل طبية دقيقة وأسماء عقاقير ومستشفيات وأطباء بحكم مهنة مؤلفه الذي اعتاد التوثيق والتدقيق، تفيض سطوره بمشاعر إنسانية نبيلة تجاه العائلة والزوجة والابن ذي الثمانية أعوام الذي كان آخر من يعلم أنه سيكتسب قريباً صفة "يتيم".
يقول أبو الغيط في فصل من الكتاب، عنوانه "شمس وقمر في مهمة إنقاذ"، عن زيارة والديه له في المستشفى: "حين شاهداني، كان وزني قد بلغ ذروة انخفاضه. عظام جمجمتي بارزة بشكل غير مسبوق. لم أشاهد سابقاً ذلك الانبعاج على جانبي رأسي. جلد على عظم حرفياً. وجهي شاحب، أمضي أغلب الوقت نائماً أو بنصف وعي بسبب كميات هائلة من المسكنات. أكثر ما آلمني هو عجزي عن تقبيل رأسيهما وأيديهما، بسبب وجود أنبوب عبر أنفي وظيفته نزح إفرازات الأمعاء".
أمّا زوجته إسراء فخصّص لها فصلاً عنوانه "وردتي البيضاء الخارقة"، حكى فيه عن بداية تعارفهما وكيفية تأسيسهما حياةً مشتركةً يتقاسمان فيها المسؤوليات والأعباء، وانتقالهما للعيش في لندن، كما لم ينسَ إدراج أغنيتهما المفضلة التي اعتادا غناءها معاً.
وبينما يبدو المرض والذكريات الشخصية القوسين الجامعين لمعظم محتوى الكتاب، تتسلّل من بين السطور خلسة تأملات في السياسة والدين، وتساؤلات حائرة عن أصل الوجود ومعناه، ونبع صافٍ من الأشعار العذبة للمتنبي وابن ميادة ومحمود درويش، ونصائح مخلصة في فن الحياة يسديها شاب شجاع بلغ حافة الموت وأبى إلّا أن يقاتل حتّى النفس الأخير.
تنطوي الصفحات ومعها حياة محمد أبو الغيط، لكن رحلته القصيرة تبقى ملهمة لكل من يقرأ الكتاب، وكأنّ ما أراده من البداية قد تحقق بأن يبقى ذرة لامعة على شاطئ الكون الفسيح.
(رويترز)