قبل غاندي

29 مايو 2023
أسّس عبد الغفار خان جمعية "خدّام الله" (Getty)
+ الخط -

يعرف العالم كلّه الكثير من دعاة السلمية واللاعنف، ولعل أبرزهم في عصرنا الحديث الزعيم الهندي المهاتما غاندي والناشط الأميركي الدكتور مارتن لوثر كينغ والمناضل الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا.

لكن العالم لا يعرف داعية مسلماً من أكثر دعاة السلام والسلمية والمقاومة اللاعنفية، وسبق هؤلاء بتأسيسه تنظيماً سلمياً يُمنع على أعضائه حمل السلاح بما فيه السلاح الأبيض، وذلك على الرغم من انتسابه إلى فئة تصنّف دوماً على أنّها من "منابع التطرف والعنف"، إنّه عبد الغفار خان (1890-1988)، الزعيم البشتوني الأفغاني الباكستاني الهندي مؤسّس جمعية "خدام الله" (خداي خدمتكار).

قام عبد الغفار خان بتأسيس "خدام الله" عام 1920، كجيش منظم بدون سلاح ومؤلف من السكان المحليين، فكان أحد الجنرالات على سبيل المثال حلاقاً، وهدفت المنظمة لخدمة مخلوقات الله دون تمييز، وتحقيق حرية الأمة والدين وتأييد المظلوم ضد الظالم. وبلغ عدد أعضائها 250 ألف شخص، يقسمون على خدمة المجتمع ساعتين في اليوم على الأقل.

وعرض الفيلم الوثائقي "باشان خان خدام الله"، من إعداد لؤي حفار وجابر بكر وإخراج شادي خدام الجامع وإنتاج "الجزيرة الوثائقية" خلال العام 2022، تفاصيل حياة هذا الرائد وعلاقته بالزعيم الهندي المهاتما غاندي، وموقفه من انفصال باكستان وبنغلاديش عن الهند، ومسيرة ومصير منظمته.

وهو عمل يُشكر صانعوه على الجهد المبذول فيه لصعوبة البحث عن إرث عبد الغفار خان، ولا سيما أنّه عانى وأعضاء حركته من الاضطهاد والملاحقة والسجن والعزل في ظل الاحتلال البريطاني، ولاحقاً بعد استقلال باكستان، فضلاً عن صعوبة الأوضاع الميدانية عند الحدود الأفغانية – الباكستانية حيث مارس نشاطه بين قومه البشتون.

استقى عبد الغفار خان أفكاره من الإسلام، وعلى الرغم من عدم قبول الرابطة الإسلامية في الهند ولاحقاً في باكستان به واتهامه بممالأة غاندي والهندوس، إلّا أنّه كان يؤكد رغبته ببناء الهند كوطن ديمقراطي علماني لكلّ أبنائه، فقال: "لم أتعلَّم العلمانية من بابو (أي غاندي). لقد وجدتُها في القرآن الكريم". كما عبّر عن خيبة أمله من غاندي: "المؤتمر الهندي باعنا وألوم أكثر غاندي وجواهر لآل نهرو لتخليهم عنا، ويبدو لي أن اللاعنف لم يكن سياسة للمؤتمر الهندي بينما كان وما زال عقيدة بالنسبة لنا".

كان غاندي وعبد الغفار خان صديقين، وزارا عدّة مرات مناطق الهند قبل تقسيمها، وكذلك زارا مناطق التوتر والنزاع بين المسلمين والهندوس عند انفصال باكستان عن الهند، وعبّر غاندي عن إعجابه بما فعله صديقه عبد الغفار، وتمنى أن يعيش بين البشتون لشدة انضباطهم وتعلقهم بدعوة عبد الغفار خان. وهنا لا بد من ملاحظة أن غاندي استطاع إقناع الهندوس بدعوته السلمية لأنهم يؤمنون بذلك ومعتادون عليه، كان ذلك قبل استلام المتطرفين من حزب بهاراتيا جاناتا الحكم في الهند، أما تحويل البشتون الذين يتغنون بأمجادهم وبقيم الشجاعة وروح الفروسية وردّ العدوان إلى السلمية واللاعنف فكان مهمة ليست باليسيرة.

قاومت حركة "خدام الله" الاستعمار البريطاني، فتعرضت لمذبحة سوق القصاصين عام 1930، حيث أطلق البريطانيون النار على مظاهرة لها فقتلوا قرابة 250 مواطناً أعزلَ، كما اعتُقل عبد الغفار خان وقضى في سجن الاحتلال ما يقارب 15 عاماً، ومع ذلك كان يصرّ علي سلمية حركته، وقال لأتباعه:

"سأقدم لكم سلاحاً فريداً لا تقدر الشرطة ولا الجيش علي الوقوف ضده. إنه سلاح النبي، هذا السلاح هو الصبر والاستقامة. ولا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع الوقوف ضده".

ولكي تكتمل مأساوية قصة عبد الغفار خان و"خدام الله" فقد عارض خان الانفصال عن الهند، لكنّه عاد وأقسم يمين الولاء لدولة باكستان عام 1948، وأصبح عضواً في المجلس التأسيسي لباكستان. لكن ذلك لم يمنع الحكومة الباكستانية من اعتقال خان وأولاده وسجنه 18 عاماً، وحظر الحركة بين العامين 1948 و1953، متهمةً إياها بخيانة البلد ودعم الهندوس، وسجنت الآلاف من أعضائها وصادرت أموالهم وقتلت حوالي 600 شخصٍ منهم خلال تظاهرة قاموا بها احتجاجاً على تعامل الحكومة معهم.

مع ذلك، أصر خان حتى نهاية حياته على السلمية، فـ"اللاعنف قوته ذاتية وسلاحه الدعوة والتبشير، اللاعنف يولد المحبة ويخلق الشجاعة والتصميم، اللاعنف لا تصيبه الهزيمة. أمّا العنف فالخسارة هي إحدى سماته، العنف سهل وطريقه يسير أما اللاعنف فصعب وطريقه شاق".

وعند وفاته، نكست الهند وباكستان وأفغانستان أعلامهما، ورشّح لجائزة نوبل مرتين، ولم يبق من إرثه سوى حزب صغير هو حزب عوامي.

وما لفت نظري أنّ معدي الفيلم سمعا عن عبد الغفار خان من العالم السوري الراحل الشركسي الأصل الشيخ جودت سعيد، والذي أسس نظريته في اللاعنف على كتابه "لا تكن كابن آدم"، الذي يدعو ألّا يكون الإنسان قاتلاً، وإذا اضطر فليكن مقتولاً، وعارضته طالبته السيدة النجيبة سحر أبو حرب بكتابها "لا تكن كابني آدم"، أي لا تكن قاتلاً ولا مقتولاً.

المساهمون