مع كلّ إعلان سنوي عن برنامج "مهرجان فينيسيا السينمائي"، تبدأ التكهّنات عن مدى مُشاركة المنصّة الأميركية "نتفليكس" بجديدها فيه: كم عدد الأفلام، في المسابقة أو خارجها؟ ما العناوين المطروحة؟ من هم مخرجوها؟
منذ سنوات قليلة، بعد توسّع الإنتاج الضخم للمنصّة، لا يجد "مهرجان فينيسيا" غضاضة في عرض إنتاجاتها في برامجه المختلفة، وحتى كفيلم افتتاح. مهرجانات دولية كبرى اتّخذت النهج نفسه، كـ"مهرجان برلين"، باستثناء مهرجان "كانّ"، الذي لا يستطيع قبول أفلامها وبرمجتها، لأسباب قانونية خاصة بعرض الأفلام المشاركة في دوراته في الصالات الفرنسية، ما أخرجه من سباق الحصول على أفضل أفلام المنصّة، متيحاً بذلك لـ"مهرجان فينيسيا"، تحديداً، الفوز بأغلب الإنتاجات المُهمّة لـ"نتفليكس"، ولغيرها من منصّات البثّ عامة. علماً أنّ "نتفلكس" تتفوّق على منصّات أخرى، كـ"أمازون" و"أبل" و"إتش بي أو ماكس" و"سوني".
المُثير للانتباه، بشدّة، أنّه، عند مراجعة مشاركات المنصّة في "مهرجان فينيسيا"، تتّضح أمور عدّة، منها المشاركة السنوية بثلاثة أفلامٍ، على الأقل. ورغم أنّ إنتاج المنصة مختلف الأنواع السينمائية، يغلب على أفلام هذا المهرجان نوعٌ واحد: أفلام السيرة الخاصة بشخصيات عامة، أو بالمخرجين أنفسهم. هذه أمثلة: "روما" (2019) للمكسيكي ألفونسو كُوارون، سيرةٌ لمُخرجه، أو لجزء مُهمّ ومُؤثر من حياته؛ "يد الله" (2021) للإيطالي باولو سورينتينو، عن بعض حياة مخرجه؛ "شقراء" (2022) للأسترالي النيوزيلندي أندرو دومينيك، عن بعض حياة مارلين مونرو؛ "باردو" للمكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، عن شخصية المخرج وحياته. حديثاً، هناك "مايسترو" (2023) للأميركي برادلي كوبر، عن الموسيقي الأميركي ليونارد برنستاين.
كذلك، تتواجد المنصة بشكل ملحوظ بفضل أفلام دراما الإثارة والتشويق: "أغنية باستر سْكرَغز" (2018) للأخوين الأميركيين جويل وإيثان كوين، و"المغسلة" (2019) للأميركي ستيفن سودربيرغ، و"قوّة الكلب" (2021) للنيوزيلندية جاين كامبيون، و"أثينا" (2022) للفرنسي رومان غافراس، و"ضوضاء بيضاء" (2022) للأميركي نواه باومباك. أخيراً، هناك "القاتل" (2023) للأميركي ديفيد فينشر: فيلمُ جريمة وإثارة بقوّة. كما يُمكن إضافة "الكونت" (2023) للتشيلي بابلو لارين.
من الأفلام التي تجمع الفني بالتجاري والترفيهي، المشارِكة في الدورة الـ80 (30 أغسطس/آب ـ 9 سبتمبر/أيلول 2023) لـ"مهرجان فينيسيا"، هناك "القصة الرائعة لهنري شوغر" (2023)، فيلم قصير (37 دقيقة) للأميركي وس أندرسن؛ وفيلم الختام "مُجتمع الثلج" (2023) للإسباني خوان أنتونيو غارثيا بايونا.
الأفلام المذكورة ليست كلّ المعروض في المهرجان، في الدورات الماضية، وإن تكفي لطرح تساؤلات عدّة عن فرض "نتفليكس" نفسها، وشروطها طبعاً، في السوق العالمية؛ وتأثير هذا على المهرجانات. فهل للمنصة خطّة مُحدّدة لإنتاج أفلام محدّدة، خاصة بالمهرجانات أولاً، قبل عرضها لاحقاً على شاشتها، فيشاهدها جمهورها المشترك بها؟ هل تكرار هذه الأنواع السينمائية المتواجدة في المهرجان، في سنوات متتالية، مجرّد صدفة، أو أنّ لتكرارها غاية معيّنة؟ طبعاً، يصعب الحديث عن وجود/عدم وجود اتفاق ما بين "مهرجان فينيسيا" والمنصة، لضمان وجود أفلامها، سنوياً، بين الأفلام المختارة، بصرف النظر عن مستواها.
التساؤلات تنسحب أيضاً على مدى الحرية (كاملة؟ منقوصة؟) التي يتمتع بها المخرجون، إزاء إغراء التمويل، وربما المشاركة في المهرجان. لا شكّ أنّ البعض يصنع ما يُريده فعلاً، كغونزاليس إيناريتو (باردو) وكُوارون (باردو). لكنّ هذا لا يمنع أنّ البعض الآخر، ولو بطريقة غير واعية، يضع في الحُسبان أنّ الفيلم مُنتَجٌ لجمهور يُفضّل نوعاً مُحدّداً من دون سواه، فـ"يُرضيه".
الأسئلة المُثارة مردّها ليس التواجد السنوي للمنصة في المهرجان ومسابقته الرئيسية، ولا لتكرار النوع، بل المستوى الفني في دورة هذا العام. أمر بدا واضحاً في "القاتل" لفينشر، الذي وصفه ألبيرتو باربيرا، المدير الفني، بأنّه عنيف جداً، ومُذهل من البداية إلى النهاية، مُثنياً على روعة أداء ممثله الأساسي مايكل فاسبندر. هذا يُثير علامة استفهام حول رأي مُدير فني، هو ناقد سينمائي أساساً، في فيلمٍ كهذا، لا جديد فيه أبداً. ربما هناك بعض التشويق، لا أكثر، لكنْ من دون غموض وعمق.
طبعاً، الفيلم مصنوعٌ جيداً، والأداء لا بأس به. لكنّه، بروحه وإيقاعه وطول مدّته (118 دقيقة)، وجوانب أخرى مُختلفة، يُناسب تماماً أفلام "نتفلكس" أكثر من أي شيء آخر: قاتل مأجور (فاسبندر) يفشل في تنفيذ عملية قنص مُكلّف بها، ما يُعَرِّض زوجته لانتقام رؤسائه، لعدم استطاعتهم التخلّص منه، فيضطر للثأر لها من جميع الذين أذوها، ومنهم قاتلة، تؤدّيها تيلدا سوينتن، التي تمثّل في الفيلم دوراً صغيراً لا أهمية له أبداً، كان يُمكن لأي ممثلة أخرى أنْ تُؤدّيه.
أما التشيلي الموهوب بابلو لارين، فيبدو أنّه يُغازل جمهور "نتفليكس"، فيصنع فيلماً يتماهى والأفلام الرائجة والمُحبّبة للمُشتركين بالمنصة. صحيحٌ أنّ أفلام مصّاصي الدماء من النوع العريق في السينما، الذي له أهميته وجمالياته وثقله وجمهوره. لكنّ تركيبة لارين، في تقديمه فيلماً سياسياً ـ اجتماعياً، قوامه خلطة فلسفية خيالية فانتازية، لم تنجح، إذْ نرى شخصية الديكتاتور الفاشي أوغوستو بينوشيه، المعروفة تاريخياً، مصّاصَ دماء عابراً للأزمنة، يعيش أكثر من قرنين، ويُحلّق في سماء البلد ليختار ضحاياه ممن سيقتلهم ويمتصّ دماءهم ويلتهم قلوبهم، في مشاهد دموية متكرّرة، مثيرة أحياناً ومزعجة أحياناً كثيرة. ورغم جديد الفكرة والطرح، بعض الشيء، جاء الفيلم دون المستوى، حتّى مُقارنة بأفلام سابقة للمخرج نفسه، خاصة أنّ الفكرة استنزفت نفسها منذ الدقائق الأولى لـ"الكونت".
أفلام السيرة، التي تنتجها "نتفليكس"، تكون جيّدة غالباً. في هذه الدورة، يتفوّق "مايسترو" على كل ما أنتجته سابقاً. ربما بفضل موهبة برادلي كوبر، الإخراجية والتمثيلية، وربما لأنّ الأميركيَّين مارتن سكورسيزي وستيفن سبيلبيرغ مشاركان في إنتاجه، ما يعني الكثير جداً في المستويات المختلفة: حياة ليونارد برنستاين (1918 ـ 1990)، أحد أكبر المؤلّفين الموسيقيين المعاصرين وأهمّهم، وقائد الأوركسترا وعازف البيانو، وكيفية صعود نجمه وبروز موهبته الفذّة. أداء كوبر للشخصية يؤهّله بسهولة للمنافسة على جائزة أفضل ممثل، بفضل التنقّل البارع من شباب ليوناردو في أول حياته، إلى تعرّفه على حبيبته الممثلة المسرحية الموهوبة والمشهورة فيلتشيا (كاري موليغان)، وزواجهما الذي استمرّ ربع قرن، وإنجابهما ثلاثة أبناء، رغم الصعوبات والعقبات، والمثلية الجنسية لبرنستاين، الذي رغم هذا يُحبّ زوجته ويُخلص لها ولبيتهما وعائلتهما؛ وصولاً إلى أداء مغاير تماماً في مُنتصف العمر، وعند الانتقال إلى الألوان في نصف الفيلم، بدلاً من اللونين الأسود والأبيض، واستعراض الفترة الأخيرة من حياته، بعد وفاة زوجته.