فيلم EO... حمار بعينين مغلقتين على اتساعهما

08 ابريل 2023
تبدو عيناه وكأنهما مرآتان عميقتان من الفهم والوعي والإدراك الصامت (Janus Films)
+ الخط -

بكلمات قليلة، يقدم لنا فيلم "إي أو" EO لمخرجه البولندي، جيرزي سكوليموفسكي، الكثير لنفكر فيه حول حقائق الحياة القاسية وانعكاساتها على من ينأون بأنفسهم عن الصراعات الضارية ويكتفون بقول القليل، أو لا شيء، خلال رحلة يقطعونها على أقدامهم.

كان EO واحدًا من أبرز أفلام حفل توزيع جوائز أوسكار الخامس والتسعين عن فئة أفضل فيلم أجنبي، وهو مستوحى موضوعًا وأسلوبًا من تحفة روبرت بريسون الفرنسية Au Hasard Balthazar عام 1966، ومصنف تحت فئة أفلام الرحلات أو الطريق.

يتتبع الفيلم حياة حمار سيرك يدعى EO خلال رحلة انطلق بها وحيدًا في أدغال المدن وضواحيها الإسمنتية، حاصدًا نصيبه من المواجهات العنيفة مع البشر والطبيعة خلالها. يمر EO بلاعبي كرة قدم ينهالون عليه ضربًا لأنهم اعتقدوا أنه تسبب بخسارة فريقهم، ويقتاده تاجر لحوم غير شرعي إلى آلة لفرم اللحوم، ينجو من شفراتها الحادة بأعجوبة، لكن ينتهي به الأمر برفقة رجل يعترف له بأكل "مئات الكيلوغرامات من اللحوم"، ومن بينها لحم الحمار، ويصل معه إلى منزله المضطرب، حيث سيهرب من جديد إلى قدر غير معلوم.

يختلف EO عن أفلام الطريق من نواحٍ عدة، أهمها أن دوره الرئيسي مسند إلى حمار، كذلك تختلف الرحلة التي يخوضها في أهدافها وأسبابها عن مثيلاتها من ذات النوع، فغالبًا ما تصور دراما الطريق شخصيات إشكالية وخارجة عن القانون، تنطلق في رحلتها باحثة عن هوية أو معنى جديد لحياتها. أما EO، حاله حال الكلاب الشريدة، فرحلته قسرية لا اختيارية، تتسم بطابع وجودي وفلسفي، وتحاكي رحلة المخلوقات الأليفة بشتى أنواعها وهي تجول المنفى محاولة إيجاد منزل محتمل لها. لا مأوى للحمار سوى طريق تنبذه باستمرار، وصل إليها بعدما خسر صديقته الوحيدة وحاميته من سوط المعنفين والملّاك، وهي شابة تُدعى ماجدة (ساندرا درزيمالسكا) تعمل في السيرك نفسه.

يخوض EO بعض المغامرات اللطيفة، لكن غالبها مؤلم وشاق. وتترك رحلته تعليقًا ثاقبًا على حالة الإنسان ومآسيه وجنونه، خاصة عيني الحمار اللتين تبدوان وكأنهما مرآتان عميقتان من الفهم والوعي والإدراك الصامت، بعدما خسر راكبيه ورفقاء دربه، من أمثال سانشو وجحا، وبات يتطلع وحيدًا إلى عالم ممل وكئيب، يخلو من الغزوات والبطولات والفروسية المشتهاة.

ليس EO أول فيلم تُستخدم فيه الحيوانات كجزء رئيسي من الطاقم التمثيلي، إذ يرجع ذلك التقليد إلى الأيام الأولى للسينما، خاصة مع أفلام الغرب الكلاسيكية خلال منتصف القرن العشرين، حين استعملت الحمير والأحصنة لنقل البضائع والمعدات عبر التضاريس الوعرة للحدود الأميركية، ودلت رفقتها على طبيعة الشخصية وحاجتها لصحبة موثوقة. كذلك برزت أفلام عدة عن الحياة البرية أو الطبيعة دافعت عن حقوق الحيوانات ووثقت آلامها، أو تلك الأكثر حداثة التي استفادت من حضور الحيوانات بصحبة البشر لإضافة الدراما والفكاهة والواقعية وتعزيز المشاركة العاطفية التي يصعب تحقيقها مع الممثلين البشريين.

يرجعنا فيلم سكوليموفسكي إلى الأدب اليوناني في الحقبة الكلاسيكية، وتحديدًا رواية "الحمار الذهبي" الأقدم في التاريخ، وهي عن رجل يتحول بفعل السحر إلى حمار يعاني على أيدي البشر الذين يمتلكونه ويشترونه ويسرقونه. الحمار هو الراوي في تلك الرواية، وقد احتفظ بعقله الآدمي إلى جانب هيئته الحيوانية. لذا، سرده للأحداث وملاحظاته عن العالم المحيط به مصاغة من وجهة نظر تدرك وتفسر العالم بمنطق ووعي بشريين. الجديد في فيلم EO أنه يقدم نموذجًا ثوريًا على استخدام الحيوانات كرواة موثوقين لقصصهم الخاصة، فهو لا يلقي الضوء على قضاياهم المؤلمة وتشابكاتها مع الظروف البشرية فحسب، بل يرويها من زاويتهم، وكما تراها أعينهم المتسعة كمجرات مظلمة وتفهمها عقولهم الحيوانية والغرائزية، من دون سعي إلى أنسنتهم على غرار معظم الأعمال المعاصرة التي تميل إلى تمثيل حيوان ناطق بلغة البشر ومحاكيًا لهم بإدراكه وتصرفاته، حتى يكتسب تعاطف المشاهدين وحبهم، وتغدو غاياته وأهدافه مفهومة وفق منطقهم الخاص.

لدحض ذلك النهج، يركز المخرج على برية EO وحيوانيته، من دون تشذيب بشري يدعو بحجته جمهوره إلى التعاطف مع EO ومنحه مكانًا أفضل في العالم. توضح الخيارات الإخراجية غايات المخرج، وأولها ابتعاده عن أسلوب الأعمال السينمائية المعاصرة التي تجمع بين المؤثرات الخاصة أو CGI والتصوير الواقعي لخلق عوالم أو كائنات مستنسخة عن الواقع، إذ يشرك المخرج الحيوانات الحقيقية بدلًا من تزييفها، فيلعب دور EO ستة حمير مختلفة، هي هولا وتاكو ومارييتا وإيتور وروكو وميلا. تتحرك بحريتها وتطلق نفسها على سجيتها من دون رسن يقيدها، وتتفاعل مع الكاميرا التي تمشط فراءها الرمادية وتتتبع أعينها كأنها بوصلة لفهم العالم، وتلتقط واحدًا من أجمل مشاهد الفيلم، يحاول فيها EO أكل إكليل جزر طوق عنقه بصعوبة.

ينقل المصور السينمائي ميشال ديميك هذه المحطات بلقطات تتنوع بين الكلوز آب والعدسات المضطربة والمهتزة في مزج شعري وواقعي لا يخلو من نغمة الكوابيس المرعبة، معبرًا من خلال ألوان عدسته، وبعضها لا يبصره EO برؤيته ثنائية اللون، وتحركاتها القلقة عن كيان الحمار الداخلي، وزعزعة العالم المحيط به، خاصة شعور الاستلاب الذي يطغى على EO، فهو كائن بوعي كامل، يشعر ويفضّل ويحب، لكنه مع ذلك يُعامل معاملة الشيء، فيُرحّل ويُسرق وتعاد موضعته كأنه قطعة أثاث في أيدي ملاكها.

أحد العناصر الأكثر لفتًا للانتباه في الفيلم هو استخدام سكوليموفسكي لأسلوب التقشقف الإخراجي (Minimalism)، إذ يُقل المخرج في استخدام الحوارات أو العناصر البصرية غير الضرورية، ما يخلق إحساسًا بالجمال الصارم والوضوح الثاقب. بدلاً من الثرثرة، يعتمد المخرج على قوة سرد القصص المرئية لنقل مشاعر وتجارب EO، ويستخدم الأصوات الطبيعية في الحظائر والغابات، مثل عواء الريح والنهيق ونعوسة الحيوانات وخرير الجداول، لخلق إحساس بالجو والواقعية.

تشير شارة النهاية إلى تصوير الفيلم من منطلق الحب الخالص للحيوانات، وتؤكد سلامة وحماية جميع الحيوانات العاملة فيه، لكن الفيلم مع ذلك لا ينجح بالكامل في تفادي مخاوف مناصري حقوق الحيوانات ومنظمات الرفق بالحيوان، حاله حال معظم الأفلام من ذات النوع، وذلك خوفًا من حرمان الحيوانات من بيئتها الأصلية وإبقائها مدة طويلة في مواقع التصوير، فضلًا عن أساليب التدريب القاسية الممكن اتباعها خلال العمل.

لا شك أن فيلم سكوليموفسكي يحمل من الجرأة والجمال والقسوة ما يكفيه لأن يغدو واحدًا من الأعمال التي لا تُنسى. وهو فيلم قد يبدو في الوهلة الأولى عن الحمار فقط، لكنه يملك ما يقوله حول وضع البشري أيضًا، وعن تلك الرفقة التي تجمعهما والقدر المؤلم الذي يتشاركانه أيضًا. هل اللعنة ترافق الحمار وحده منذ أن منح الأفعى نبتة الأبدية مقابل بعض الماء في يوم حار؟ أم تلاحق ممتطيه الذين ألقوا حمالهم الثمينة على ظهره ونسوا منها الماء؟

دلالات
المساهمون