"قِصَر نظر" ـ المعروض منذ وقتٍ قريب في الصالات المغربية ـ ثاني روائي طويل لسناء عكرود التي ذاع صيتها كممثّلة في أفلامٍ تلفزيونية ومسلسلات. فيلمها السينمائي الأول كمخرجة عنوانه "خنيفيسة الرماد" (2015)، ينتمي إلى النوع نفسه من الحكايا الشعبية، المستلّة من تراث المغرب الذي اشتهرت في أداء أدوار فيه.
في "قِصَر نظر"، تجنح عكرود إلى سينما بطموحٍ فنّي أكبر، مع قصّة فاطم، امرأة تعيش في قرية جبلية نائية، وترزح تحت الفقر والأمية، وتضطرّ ـ رغم حملها المتقدّم، وبعد جدلٍ بين أهالي القرية ـ إلى خوض مغامرة الهجرة إلى المدينة، لإصلاح نظّارات شيخ القرية، لأنّه الوحيد القادر على قراءة الرسائل التي يبعثها الرجال المغتربون إلى زوجاتهم.
على الرغم من أنّ هذه الوضعية الأوّلية تنطوي على احتمال الانزلاق نحو الإكزوتيكية، فإنّ كلّ شيءٍ يبقى مرهوناً بمدى توفّق رؤية الإخراج والمعالجة الفنية في الإفلات من فخاخ التناول المتزلّف للغرابة السهلة والمقحمة. لكنّ مشهد اجتماع أهالي القرية، لإيجاد حلّ لمأزق تكسّر نظّارات الشيخ، يعطي سريعاً مُؤشّراً أوّلياً على معالجة درامية، ترتكز على الإطناب في حوارٍ يقول كلّ شيءٍ، بتكرارٍ فجّ أحياناً وخارج عن سياق الفكرة العامة للفيلم. هذا يتأكّد عندما تصل فاطم إلى المدينة، وتأخذ في حكي أسطوانة سفرها من أجل "ملء نظّارات شيخ القرية" للمارّة، ثمّ لصانع النظّارات، وطبيب العيون، ولشخصيات أخرى على امتداد الفيلم، بالتعابير نفسها، بل باستعمال الكلمات نفسها تقريباً.
معضلة الفيلم أنّه يحصر فاطم في صورة المرأة القروية الساذجة، السائدة في السينما والتلفزيون المغربيين، من دون أي محاولة للغوص في باطن شخصيتها بشكل معقّد، في الوقت نفسه الذي يتمّ السعي فيه إلى التسامي بوضعية الهشاشة التي تعيشها، من أجل رؤية إنسانية لإشكالية الخصاص الفادح في الخدمات العمومية (التعليم، الصحة، العمل، إلخ)، الذي تعانيه القرى المنسية في المغرب. لكنّ الخلط الفادح في مقاربة الشخصية الرئيسية بين الطيبة والسذاجة، وبين البساطة والغباء، يضرب طرح الفيلم في مقتل.
فشلٌ يستمرّ في القسم الثاني من الفيلم. لكنْ، بفعل طابع البرهانية والتضخّم الذي يهيمن على الخطاب، تجد فاطم نفسها وسط هالة إعلامية، بعدما صادف مرورها في أحد الشوارع الرئيسية للمدينة قمع إحدى التظاهرات من القوات العمومية، وتعرّضها لنصيبٍ من هذا القمع. تلي ذلك سلسلة من الاستجوابات مع الشرطة، ثم لقاء (لم يخلُ من طابع الاستجواب) مع فاعلين جمعويين، يتبعه حوار مع طاقم قناة تلفزيونية. مشاهد طغى عليها الاستسهال الحواري العشوائي نفسه، ونسمع فيه جملاً غريبة، مثل: "هل يرضيكِ أنْ تعودي إلى قريتك بنظّارات خاوية وبطنٍ فارغ؟". الجمل المسكوكة تكاد تكون نقطة الضوء الوحيدة، التي فيها إشراقات أداء سناء عكرود في دور فاطم، حين لا تسقط المخرجة في البكائية، ولا تتحدّث بلسان شخصيتها الرئيسية.
طموح صُنع فيلمٍ ليمنح الممثّل نفسه دوراً يحلم بأدائه، ولا يقترحه عليه المخرجون الآخرون (كما صرّحت المخرجة بذلك في حوارات لها)، لا يكفي لكتابة نصٍّ جيّد، فما بالك بإنجاز فيلمٍ متماسك ومقنع. سعت سناء عكرود إلى نسج السّرد على منوال السيناريو ـ الذريعة، عبر تكتيك الوضعية الأولية البسيطة في ظاهرها، التي تُتّخذ كذريعةٍ لرحلة أو مغامرة، تلتقي الشخصيات فيها نماذج من المجتمع في أوضاع مختلفة، تنتهي بقول أشياء أعمق وأكثر دلالة، خصوصاً أنّ هناك متوازيات جذّابة بين مفهوم "قِصر النظر" والتعاطي القاصر لسلطات المركز، من سياسيين ومجتمع مدني وإعلام، مع حاجات الهامش، رغم أنّ الفيلم غيّب المسؤولية السياسية، وحصرها في دائرة الأمنيين، ما يقول الكثير عن النظرة السائدة اليوم حول السياسة في المغرب.
تكتيك السيناريو الذريعة نفسه صنع مجد السينما الإيرانية مثلاً، بفضل أفلام كـ "أين منزل صديقي؟" (1988) لعباس كيارستمي (ذريعة كرّاسة التمارين المنزلية)، و"البالون الأبيض" (1995) لجعفر بناهي (الورقة النقدية المفقودة)، و"سلام سينما" (1995) لمحسن مخملباف (الإعلان عن كاستنغ لاختيار 100 ممثّل). لكنْ، عندما تعتمد هذه الأفلام على الإيحائية الشعرية، وتحجز مكاناً خارج حقل السرد للمشاهد ليصنع فيلمه الخاص، وتفسح المجال لواقعية الحياة للتغلغل في طيات الحكي، يسقط "قِصَر نظر" في الطرح المتضخّم، الذي يفصح عن كلّ شيء، شاهراً الحقائق كلّها في وجه المُشاهد بواسطة الحوار، ومُغلقاً الأبواب في وجه التّلقي الذكي، حين يتناول الواقع بانتهازية تُجهض صدف الحياة، وكلّ غموضٍ خلّاق، ويقتصر الإخراج على لقطات طويلة، لا روح فيها، لمناظر طبيعية جبلية، وعلى لوحات جملٍ مقتبسة عن وجبران خليل جبران (بعضها يقع على خلفية سوداء في وسط الفيلم)، وبضع لقطات ضبابية (خارج التبئير) في سعيٍ تبسيطي للعثور على مقابل شكلي لفكرة الـ"ميوبيا"، يفضح فقر الرؤية الكامنة وراء الفيلم.
يذكر أن فيلم "قصر نظر" عن سيناريو وإخراج سناء عكرود التي شاركت كذلك في بطولة العمل إلى جانب غزلان الإدريسي، وقدس جندول، وفاطمة بوجو، ومحمد عياد، وحميد النيدر، ونبيل عاطف. والإنتاج لزوجها محمد مروازي.