فيلمان عن الذاكرة ومصائبها: درسٌ سينمائي بليغٌ بتقاطعاتٍ مُذهلة

31 مايو 2021
تشاد هارتيغان: الحبّ بمنظار هشاشة الذاكرة (جف فِسْبا/Getty)
+ الخط -

من أهم خلاصات الفلسفة الإنسانية أنّ جوهر التجربة الإنسانية واحد، رغم اختلاف تفاصيل كلّ تجربة على حدة، باختلاف السياقات والمحدّدات الثقافية والاجتماعية. يدلّ على هذا فيلمان حديثا الإنتاج (2020)، يُقارب كلّ واحد منهما مسألة الذاكرة بشكل مختلف، وتفاصيل خاصة، لكنْ مع تقاطعات كثيرة مُذهلة على مستوى الطرح، لعلّ أهمّها قبضهما على أجواء الأزمة الإنسانية العالمية في ظلّ وباء كورونا. غير أنّ التقابل المُثير للاهتمام يتجاوز ذلك إلى وسائل التعبير، والمتوازيات المحيّرة في مقاربتيهما الجمالية.

الفيلمان هما: "تفّاحات" لليوناني كريستوس نيكو، و"سمكة صغيرة" للأميركي تشاد هارتيغان. يقتفي "تفّاحات"، وفق أسلوب ينتحي الغموض والمينيمالية، خطى آريس (آريس سِرْفِتاليس)، رجلٌ في متوسّط العمر، يخرج من داره صباحاً، ويهيم على وجهه وسط أثينا، قبل اكتشافنا أنّه يعاني مُتلازمة فقدان الذاكرة، التي أصابت كثيرين غيره من الجنسين، وفي مراحل عمرية مختلفة، يُحمّلون في سيارات إسعاف، ويودعون في المستشفى، في حالة العجز عن إثبات هوياتهم. ثمّ تُنجز ملفات تعريفية لهم، مع صُور تساعد على التعرّف إليهم في حال بحث أهلهم عنهم. ما إنْ يستقرّ آريس في المستشفى، حتى يبدو كسمكةٍ وسط الماء. مرتاحٌ في وسطه هذا، ينهمك في أكل تفاحة تلو أخرى، طعامه المفضّل والوحيد.

يندرج "تفّاحات" في تيار سينما ما بعد الأزمة الاقتصادية اليونانية، المتّسم بكآبة الأجواء (طابع ألوان الصورة الباردة يتراوح بين الرماديّ والأزرق الفاتح)، والتركيز على مُساءلة مسلّمات الثقافة والتاريخ اليونانيين، من قبل الهوية اليونانية، في علاقتها بالمكوّن الأوروبي، وما تبقّى من إرثٍ إغريقي، في ظلّ اندماج البلد في ثقافتي العولمة ورافدها الاقتصادي، المتمثّل بالسياسات الاقتصادية المسطّحة للاستثناءات، والقاتلة بالتالي لكلّ معاني الذاكرة.

يخضع الرجل الملتحي لعلاجٍ، يتجلّى في توصيات طبية مُسجّلة على شريط كاسيت، عبارة عن مهامّ مُتدرّجة الصعوبة، تهدف إلى إعادة دمجه في المجتمع، وتتراوح بين ركوب درّاجة في منتزه عمومي، والتعرّف إلى فتاة في ملهى ليليّ، ومُراقصتها، مروراً بمُشاهدة فيلم رعب في صالة سينما. تجارب ينبغي عليه خوضها، وإثبات ذلك بصُوَر "بولارويد"، يلتقطها ثم يرتّبها في ألبومٍ، يُلخّص رحلة علاجه.

سينما ودراما
التحديثات الحية

يتّخذ كريستوس نيكو من هذه الذريعة الذكية وسيلة لمُساءلة كنه التجارب الإنسانية، وهل تتجلّى أهميتها في ذاتها، أم في ما تختزنه حولها من ذكريات (صُوَر)، فيصبح الجري وراء "ذكريات مصطنعة" ومُحدّدة مَطيّة لرؤية الحياة بمنظار جديد، يتّخذه أسلوب الإخراج، المُغرق في العبثية والاختلال اللذين يُحيلان إلى أجواء يورغوس لانتيموس (يعضد التأثّر الواضح أنّ نيكو كان مُساعداً له في باكورته "أسنان الكلب"). لكنّ الحكي ينجرّ، شيئاً فشيئاً، إلى منحى يعكس كلّ تراكمات الفصلين الأول والثاني من الفيلم، حين نكتشف ـ من خلال تفاصيل وإيحاءات يُقطّرها السرد بضربة مُعلّم ـ أنّ فقدان الذاكرة والأسى النّاجم عنه وجهان لعملة واحدة، فحواها العجز عن القبض على تلابيب الزمن الضائع. كريستوس نيكو اسمٌ ينبغي حفظه ومُراقبته عن قرب.

في "سمكة صغيرة"، نتتبّع قصّة الشابين إيما (أوليفيا كوك) وجود (جاك أوكونيل)، اللذين يُغرم أحدهما بالآخر من النظرة الأولى. تتوطّد علاقتهما، فيستقرّان معاً في شقة مشتركة. لكنّ وباءً غريباً يصيب المحيطين بهما، يُفقِدهم الذاكرة، حدّ عدم التعرّف إلى أقرب الأشخاص إليهم، ما يُهدّد بنسف العلاقة، حين تبدأ شكوكٌ في مُراودة إيما حول إصابة جود بعدوى الوباء.

ينسج تشاد هارتيغان الحكي على نمط الفيلم الرومانسي، المرتكز على حكي مُتشظٍ، يعيد مُساءلة علاقة الحبّ بمنظار هشاشة الذاكرة، ما يذكّر بأفلامٍ مشهورة، كـ"إشراقة أبدية لدماغٍ نظيف" (2004) لميشال غوندري، و"500 يوم مع سَمُّر" (2009) لمارك ويبّ. لكنّ "سمكة صغيرة" يتميّز بقتامةٍ، يستمدّها من أجواء النوع، المتراوحة بين أفلام الكوارث، مع صُور الفوضى والاقتتال الناجمة من الإعلان عن التوصّل إلى علاج محتمل، وأجواء فيلم الزومبي، حين يُصوّر الشخص المُصاب بالوباء ككائن أجوف الروح، ومتشنّج التصرّفات، يتعامل بحذر مبالغ فيه مع محيطه، ويصل إلى تبنّي العنف في مواجهة أقرب الأشخاص إلى قلبه.

يطرح الفيلم تساؤلاً بليغاً عن مدى انفصال وعي الإنسان عن محتوى ذاكرته، وعمّا يتبقّى لديه من ذاكرة الأحاسيس، حين تختفي ذاكرة الأحداث والأشياء. هنا، تحضر الصُوَر الفوتوغرافية كمُعزِّز للذاكرة المُنسحبة، ووسيلة للتشبّث برابطٍ ما مع الواقع، على شكل اختبارات تَذكّر، تُخضع إيما جود لها، فيجيبها تارةً بتذمّر، وتارةً أخرى بروح دعابة مؤثّرة، لا تنجح في تبديد القلق الجاثم على الشاب إزاء ما يختزنه غدٌ مجهول. يستعين الفيلم بجمالية العود الأبدي، لصوغ نهاية بديعة لن نفصح عنها، تجسّدها جملة حوار حاضرة في بدايته ونهايته: "كنتُ حزيناً جداً عندما التقيتك. لكنّي لا أتذكّر لماذا".

ينتهج "سمكة صغيرة" وضوحاً خادعاً ليحكي، بطريقة متشظّية وأسلوب واقعي، ذكرى لقاء يتهدّده فراق محدق، وما يرشح في ثنايا الذاكرة المفقودة من ندى الأحاسيس. بينما يسلك "تفّاحات" درب الغموض، مع مسحة من العبث، ليروي ـ بسردٍ خطّي ـ قصّة رجل يقاوم الحداد بسلاح نسيانٍ، يعطي أبجديات الحياة معنى جديداً.

درسٌ بليغ، فحواه أنْ لا نوع سينمائياً يسمو على آخر في المطلق، وأنْ وحدها القدرة على النفاذ إلى الأحاسيس، في ارتباطها بعمق التجربة الإنسانية، تصنع الفرق بين فيلمٍ وآخر.

المساهمون