ارتبط ظهور الديالوغ الغنائي بالنهضة المسرحية المصرية في بدايات القرن الماضي. فقبل المسرح، لم يعرف الغناء العربي هذا القالب الذي تنقسم فيه البطولة الغنائية بين صوتين، رجالي ونسائي في الأعم والأغلب. التاريخ المسرحي المدرك بالتسجيل أو تدوين النصوص يثبت أن مسرحيات سيد درويش كانت النافذة الأولى التي أطل منها الديالوغ على المشهد الغنائي المصري، وتتعزز الأولية الدرويشية في هذا الباب بخلو مسرد أعمال الرائد المسرحي سلامة حجازي (1852- 1917) من أي شكل للمحاورة الغنائية.
من المرجح أن تكون مسرحية "الهواري" التي لحنها سيد درويش، وعُرضت على مسرح جورج أبيض عام 1918، قد شهدت أول إرهاصات ظهور الديالوغ، إذ تضمنت عملاً ثنائياً بعنوان "أين سلمى"، يتكون من أربعة أبيات فصيحة، بيتان منهم تغنيهما سلمى، وآخران يغنيهما مصطفى.
وقد أصرت موسوعة أعلام الموسيقى العربية، الصادرة عن مركز التوثيق الحضاري ومكتبة الإسكندرية، على وضع هذا العمل تحت لافتة الديالوغ، لكنه في الحقيقة لا يشكل محاورة بين طرفين فسلمى تتغنى بشوقها إلى غائب هو مصطفى، والأخير يتساءل أين سلمى التي قد شُغف القلب بهواها. لذا، فمن المؤكد أن عام 1920 هو عام ميلاد الديالوغ من خلال مسرحيات سيد درويش التي تضمنت عدداً من المحاورات الغنائية الواضحة.
وقد شكل الشيخ سيد، بالاشتراك مع المطربة حياة صبري، ثنائياً مهماً قدم عدداً من المحاورات الناجحة، مثل "آن الأوان يا حلوة" و"على قد الليل ما يطول"، وكلتاهما من مسرحية "العشرة الطيبة". ومنذ ذلك التاريخ، أصبح الديالوغ جزءاً أساسياً من المسرحيات الغنائية، بعد أن لاقى نجاحاً جماهيرياً كبيراً، ولحن درويش قرابة 17 محاورة، غنى بنفسه 8 منها بالاشتراك مع حياة صبري، وتغنى ببقيتها حامد مرسي، وفتحية أحمد، ومنيرة المهدية، ورتيبة أحمد، وعقيلة راتب، وفيكتوريا كوهين. وهذا العدد من المحاورات الغنائية ليس قليلاً، بالنظر إلى حياة الشيخ سيد القصيرة.
ظل المسرح الغنائي ميداناً وحيداً لتقديم الديالوغ، لأن الكتابة المسرحية وفرت السياق الدرامي الذي يُمنطق غناء المحاورة، وهو ما لم توفره -حينها- سياقات الغناء الكلاسيكي التقليدي، ولذلك كانت بدايات الشاب محمد عبد الوهاب مع الديالوغ على خشبة المسرح أيضا، عندما اشترك مع سمحة المصرية بغناء أربع محاورات ضمن مسرحية "أنت وبختك" من تأليف بديع خيري، وهي: "الله يجازيكي يا ودنية"، و"نوبة على كوبري قصر النيل"، و"والله زمان يا خفافي"، و"يا مين يحكم بيني وبينك".
إذاً، مثلت سنوات العشرينيات من القرن الماضي مرحلة ظهور الديالوغ وتبلوره واتضاح صورته المغايره لأشكال الغناء التقليدي السائد، لكن غلبت على محاورات هذه الفترة سذاجة البدايات نصيا وتلحينيا. ثم جاءت السينما، فكانت الطائرة العملاقة التي حملت الديالوغ وحلقت به عاليا، ورسخت مكانته بين الجماهير، وجعلت منه أحد أهم ميادين الإبداع التأليفي والتلحيني والغنائي.
وكما كان عبد الوهاب رائدا من رواد الديالوغ في المسرح الغنائي، كان كذلك الرائد الأول للمحاورة الغنائية في السينما المصرية، إذ تضمن فيلمه الثاني "دموع الحب" عام 1935 نموذجين للديالوغ بينه وبين المطربة نجاة علي، هما "صُعبت عليا"، و"محلا الحبيب بين المَيّه"، وكلاهما من تأليف أحمد رامي. وفي هذين النموذجين، يدرك المستمع بسهولة أبعاد التطور الهائل الذي منحه عبد الوهاب لهذا القالب، مقارنة مع ما كان سائداً قبل عشر سنوات فقط.
منح عبد الوهاب المحاورة الغنائية السينمائية اهتماماً كبيراً، ولحن وغنى في أفلامه التي تلت "دموع الحب" عدداً من المحاورات المتطورة، التي اختار لكل منها شريكة من صاحبات الأصوات: ليلى مراد في فيلم "يحيا الحب" (1938)، ورجاء عبده في فيلم "ممنوع الحب" (1942)، وراقية إبراهيم في فيلم "رصاصة في القلب" (1944) الذي تضمن واحدا من أشهر المنولوغات في تاريخ السينما وهو "حكيم عيون".
وكانت آخر المنولوغات التي غناها بنفسه مع نور الهدى في آخر بطولاته السينمائية في فيلم "لست ملاكاً" عام 1946. يبدو أن عبد الوهاب -وبعد ثلاث سنوات من اعتزال التمثيل- أصر على استمرار سيادته التلحينية على الديالوغ؛ فقدم منه قطعتين خالدتين في فيلم "غزل البنات" عام 1949، كانت البطولة الصوتية فيهما لليلى مراد بالاشتراك مع نجيب الريحاني وهما: "أبجد هوز حطي كلمن" و"عيني بترف". لحن موسيقار الأجيال في حياته 21 محاورة غنائية، كان آخرها ضمن فيلم "النمر" عام 1952، مطلعها: "اعمل معروف يا أبو عود ملفوف"، لمحمد عبد المطلب ونعيمة عاكف.
لكن أكبر رصيد من ألحان المحاورات الغنائية، يذهب من دون منافسة إلى زكريا أحمد، فعبر رحلة استغرقت قرابة 20 عاماً، وضع الشيخ زكريا 58 لحناً من قالب الديالوغ، كانت كلها للمسرح إلا عملين أو ثلاثة. ومن السهل فهم تلحين زكريا هذا العدد الكبير جدا من الديالوغات إذا انتبهنا إلى أن الرجل وضع أكثر من 500 لحن تضمنتها 56 مسرحية على الأقل، بين عامي 1927 و1945. وقد تغنى بهذه النماذج كبار مطربي المسارح في هذه السنوات، وفي مقدمتهم منيرة المهدية، وصالح عبد الحي، وحامد مرسي، ورتيبة رشدي، وبديعة مصابني، وفضيلة رشدي، وعقيلة راتب.
وصحيح أن نصيب زكريا أحمد من المحاورة الغنائية السينمائية لم يكن كبيراً، لكنه انفرد بتلحين الديالوغ "الكامل" الوحيد الذي غنته أم كلثوم، بالاشتراك مع المطرب إبراهيم حمودة، بعنوان "إحنا إحنا وحدنا" ضمن فيلم "عايدة" عام 1942. ومعنى "الكامل" في هذا السياق، أن المطربين الاثنين يتقاسمان دور البطولة الغنائية بقدر من التساوي أو التوازن، وأيضاً معناه أن النص يحمل حواراً فعليا يؤديه غنائياً الطرفان.
ويرى نقاد ومستمعون متمرسون أن صوت أم كلثوم بدا متفوقاً بدرجة واضحة على صوت إبراهيم حمودة، لا سيما في النصف الأخير من الديالوغ. كان صوت كوكب الغناء في غاية القوة والأسر والعنفوان، وبسبب ندرة أداء أم كلثوم لهذا القالب، زادت أهمية العمل، لكن فيكتور سحاب يرى أن اللحن يكتسب أهمية من زاوية مغايرة، فهو أول محاورة تأخذ شكل الطقطوقة، كتابة وتلحينا، حيث تحول المطلع الغنائي إلى مذهب متكرر.
وملاحظة سحاب تفتح المناقشة حول تصنيف بعض المحاورات الغنائية، ومنها لحن زكريا لأم كلثوم في فيلم سلامة، "قولي ولا تخبيش يا زين"، فهو من ناحية يأخذ شكل الطقطوقة التي يتكرر مذهبها ولو بتغير بعض الكلمات، وهو من ناحية أخرى محاورة بين سلامة وبين أفراد من الجلساء، فيكون ديالوغ، كما أن هؤلاء الجلساء يؤدون عباراتهم أداء غير غنائي، أي بأسلوب أقرب إلى الكلام العادي، فهل "الغنائية" من الطرفين ركن من أركان المحاورة، أم إنها ليست ضرورية؟
وغير ذلك من الإشكالات التي قد تنسحب، أيضاً، على أغنية "سلام الله على الحاضرين" من نفس الفيلم، فبينما صنفتها بعض المصادر باعتبارها مونولوغاً، ارتأت مصادر أخرى أنها محاورة في شكل مونولوغ. ووفقاً لكل تصنيف سيتغير عدد ما غنته أم كلثوم من قالب الديالوغ، فيقتصر عند بعض الباحثين على عمل وحيد هو "إحنا إحنا وحدنا" أو يزيد عن باحثين آخرين ليصل إلى ثلاثة بالنظر إلى "قولي ولا تخبيش" و"سلام الله".
والحقيقة أن كل هذا الجدل لم يكن ليجد مبرراته، لو أن قواعد التصنيف الشكلي كانت واضحة وصارمة، ومتسقة مع ما يتبادر إلى الذهن من لفظة محاورة أو ديالوغ، والتي تعني الأخذ والرد، ومراوحة الكلام بين الطرفين. لكن من يطيل النظر في الأعمال المصنفة باعتبارها محاورة، سيجد أن بعضها لا يتضمن حوارا بالمعنى المفهوم، فقد يكون النص مكونا من 20
جملة مثلا، ويؤدي أحد الطرفين 19 منها، ويؤدي الآخر جملة واحدة فقط، فهل مثل هذا العمل يستحق وصف الديالوغ؟ أم أن الشروط الواضحة لهذا القالب لم تتوفر ابتداء، فيكون التصنيف وفقا لشكل الكلام، قصيدة أو منولوغاً أو طقطوقة؟
بعد عبد الوهاب وزكريا، عرفت السينما المصرية عدداً من أنضج المحاورات الغنائية وأجملها. وفي مقدمة هذه المحاورات يأتي ديالوغ "شحات الغرام"، بين محمد فوزي وليلى مراد، بكلمات بديع خيري، من فيلم "ورد الغرام" عام 1951.
حقق هذا الديالوغ نجاحا جماهيريا كبيرا، واستمر عبر سنوات وعقود، تستعيده الأجيال، ويؤديه المطربون الجدد، ولا ريب أن ليلى مراد، ومع نجاحاتها المتكررة في أداء الديالوغ بألحان عبد الوهاب، تُوجت، بـ"شحات الغرام" وبلحن فوزي، ملكة للمحاورة الغنائية السينمائية العابرة للزمن.
وفي أمثلة المحاورة الغنائية السينمائية المتسمة بطابع فكاهي، يتقدم ديالوغ "يا سلام على حبي وحبك" لفريد الأطرش وشادية، من كلمات فتحي قورة، وضمن فيلم "أنت حبيبي" عام 1958. وهو عمل جمع كل ما يتناسب مع السياق الكوميدي، من رشاقة الكلمة، وقصر الجملة الموسيقية، وقبل كل هذا، التقاء صوت فريد بصوت شادية. كان هذا الديالوغ دليلا على العناية الفائقة من الفنانين القدماء تجاه أي عمل، وإن كان فكاهيا يهدف إلى الإضحاك والتسلية. ومن حق الجماهير اليوم أن تسأل: أين ذهب هذا الإتقان؟ وأين ذهب الديالوغ؟