استمع إلى الملخص
- تميز بمدرسة موسيقية فريدة تجمع بين التأثيرات المحلية والعالمية، وواجه منافسة شديدة مع كبار الفنانين، مما أدى إلى انقسام الجماهير بين مؤيديه ومعارضيه.
- رغم الجدل حول تكرار أسلوبه في العزف على العود، ساهم في تعزيز مكانة الآلة بين الجماهير، ويدعو النقاد إلى تقييم موضوعي لمسيرته الفنية.
حين وصل الصبي فريد الأطرش بصحبة أسرته إلى القاهرة أوائل العشرينيات، واجه بعض المعاناة التي يواجهها كل مغترب، واحتاج إلى بعض الوقت والجهد حتى يؤمن ضرورات الحياة من مسكن ومأكل وملبس ودراسة موسيقية.
كانت معاناته تشبه كثيراً ما يواجهه أي شاب مصري ينتقل من الدلتا أو الصعيد للاستقرار في القاهرة. تعرّف تدريجياً إلى أوساط الموسيقيين، وعمل مع بعض المشتغلين بالغناء، إلى أن أوصلته المقادير إلى كازينو بديعة مصابني، وعرف معنى الاستقرار المادي.
منذ ذلك التاريخ، انطلق فريد الأطرش في رحلة صعود سريع، وقصة نجاح متواصل. وبين عقدي الثلاثينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بنى مجداً فنياً كبيراً، وحقق شعبية واسعة بين الجماهير المصرية والعربية. وبالطبع، لم يكن الرجل ليحقق هذا النجاح وهذه الجماهيرية إلا بالدخول في منافسة مع أعلام الغناء والتلحين في عصره، ثم استطاعت الصحافة أن تنقل هذه المنافسة من موقعها الطبيعي، أي بينه وبين محمد عبد الوهاب أو رياض السنباطي إلى موقع أحدث، وأكثر اشتعالاً، وتحديداً مع عبد الحليم حافظ، وقد خلقت هذه المرحلة التنافسية حالة غير مسبوقة في الحياة الفنية، إذ انقسمت الجماهير إلى حزبين: حزب فريد وحزب حليم، ثم تطور الأمر بين قطاعات واسعة من جمهور فريد، الذين رأوا أن مطربهم الأثير في كفة، وكل المطربين والملحنين والعازفين في كفة أخرى. وبعد رحيل فريد وحليم، ظن كثيرون أن هذه الحالة العصبية قد هدأت، ثم اتضح أنها اختبأت مؤقتاً، لافتقادها وسائل الظهور والتعبير.
وبمجرد أن ظهر الإنترنت، وانتشرت المنتديات الموسيقية، وأتيح النشر الفني على مواقع التواصل الاجتماعي، استطاعت تلك الحالة أن تعبر عن نفسها مجدداً، واستلزم الأمر معارك متواصلة، وتراشقات مع جماهير عبد الوهاب والسنباطي وبليغ وعبد الحليم وغيرهم، لأن كثيراً من أعضاء "حزب فريد" لا يقبلون حتى بمساواة الرجل بمجايليه، بل يصرون على "أوليته" وأنه في مكانة لا يشاركه فيها أحد.
وقد انتقلت هذه المعارك الجماهيرية إلى بعض النقاد والصحافيين العرب، الذين تفاعلوا مع الحالة الشعبية، وسايروها، ورأوا أن السلاح الأقوى في هذه المعركة يتمثل في طريقين: الأول، أن ينسبوا إلى فريد عدداً من "الكمالات" الفنية التي ترفعه فوق كل معاصريه: صوتاً وغناءً وعزفاً، بل وتمثيلاً سينمائياً.
والثاني، الشكوى المستمرة والمكررة من ظلم وتجاهل تعرض له الرجل، إما بسبب الحسد أو الغيرة من تفوقه الفني، وإما بسبب كونه ليس مصرياً، بل في بعض الأحيان استدعيت المسألة الدينية، بالتذكير بأن الأطرش ناله الظلم الفني لأنه ابن الطائفة الدرزية في سورية. لا يساعد هذا المناخ على تأمل هادئ لمنجز فريد الفني، ولا ريب أن هذا الفنان الكبير والمؤثر جماهيرياً يستحق في ذكرى رحيله الخمسين، نظرة موضوعية، ونقداً متوازناً، بعيداً عن احتراب المتعصبين والمُبخسين.
في صفحة البيانات الأساسية، نطالع ما يلي: فريد فهد فرحان إسماعيل الأطرش. ولد عام 1910 في بلدة القريا التابعة للسويداء جنوب سورية لأسرة درزية عريقة، فهو أمير ابن أمير، وأمه علياء المنذر صاحبة صوت جميل ومقدرة غنائية. انتقل في طفولته مع الأسرة من سورية إلى مصر هرباً من ملاحقة جنود الاحتلال الفرنسي لوالده وعائلته بسبب نشاطهم في المقاومة.
فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، انتفض السوريون تحت قيادة سلطان باشا الأطرش، وتنقلت أسرة فريد بين السويداء ودمشق وبيروت، ولكن الفرنسيين استمروا في مطاردتهم، فقررت الأم الهرب بأولادها إلى مصر مستغلة الصداقة بين سلطان الأطرش وبين الزعيم المصري سعد زغلول.. كان ذلك عام 1923، أي قبل أن يبلغ فريد 13 عاماً، ورغم ذلك، يصر كثير من النقاد على أن هذه الأحداث انعكست آثارها على رحلة فريد الفنية، وأنها تفسر ميله الدائم إلى "الحزن" تلحيناً وغناء، وهو ما يتلاقى مع نظرة شعبية ترى أن فريد تكون في رحم المعاناة والألم والظلم الذي امتد لاحقاً عبر أقلام النقاد.
ترى الباحثة سمر سلمان أن فريد الأطرش صاحب مدرسة شديدة الخصوصية انطلقت من دوائر ثلاث: دائرة محلية شهدت أولى خطواته الفنية في بيئته الشامية، ودائرة إقليمية عربية شرقية عرفت نضجه الفني وتألقه في بيئته القاهرية واستلهمت فن الرواد الأوائل ونسجت على منوالهم، ثم دائرة عالمية استلهمت موسيقى الشعوب الأخرى وإيقاعاتها، كالسامبا والرومبا والتانغو، وكذلك بعض ملامح الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، لا على سبيل المحاكاة الفجة، بل من خلال إخضاعها لروح الشرق وهضمها في بوتقته باقتدار.
وتميل سلمان إلى الرأي الذي يقول إن الأطرش قدم حالة من التعادل بين غنائه وتلحينه وعزفه فهو "مثلث موسيقي متساوي الأضلاع.. ففريد المطرب يمتلك مساحة صوتية كبيرة متفردة ومتوائمة مع خصوصيته ملحناً، وبالتالي كان يصعب على غيره أداء بعض ألحانه التي غناها بنفسه، لا سيما تلك التي ترتكز على إظهار مساحته الصوتية الهائلة وقفلاته الخاصة المميزة. إنه صوت عملاق بإجماع الدارسين وذوي الاختصاص بغضّ النظر عن القماشة الصوتية التي قد يُختلف حولها بين محبّ ومبغض.
ربما كان فريد الأطرش من أكثر الفنانين العرب الذين ألصقت بهم الأوهام والأساطير، لا سيما قابلية المتعصبين لأي معلومة تدعم إصرارهم على "أولية" أو "صدارة" أو "تفوق" يستحقه فريد حصراً وقصراً دون غيره من المطربين أو الملحنين أو العازفين. يرى الناقد الموسيقي فادي العبد الله أن الأطرش حظي دوماً بكثير من المعجبين والمعجبات، في مصر بالطبع، ولكن على الخصوص في فلسطين وسورية.
لكن الظاهرة الأبرز، في يومنا هذا، أي بعدما أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي حيزاً شبه وحيدٍ للنقاش وتبادل الآراء، هو حجم التعصب الذي يتبدى عند معظم هؤلاء المعجبين، وهو ليس حكراً على جمهور الأطرش، فهنالك تعصب مشابه مثلاً لبليغ حمدي أو للسنباطي أو غيرهما. هذا التعصب لا يمكن له أن ينمو إلا على أساسٍ من الأساطير والحكايات غير الموثوقة وانعدام النقد الجاد واستبداله بالنميمة والشائعة، أي بكلام آخر ينبغي له أن يستبطن تراتبية من القيم الزائفة والمفاهيم والأفكار السائدة والمغلوطة والمضرة في واقع الأمر، كما في حالة فريد الأطرش في شأن العالمية/الشرقية، أمير العود، الموسيقار "الحقيقي"، الفخامة والموسيقى الأوركسترالية.
يعتقد العبد الله أن هذه التراتبية المغلوطة في المفاهيم والأفكار تحجب عنا الجمال الموسيقي الحقيقي وتشوهه. هكذا يحجب "وسام الخلود" المزعوم والمقارنات الموسيقية في غير موضعها النتاج العظيم لفريد الأطرش من الألحان "الخفيفة"، أي الشعبية الناجحة البسيطة القريبة إلى القلب من دون أي ادعاء، وتحجب عنا تنوع إنتاجه السينمائي بين الغناء العاطفي والأداء الكوميدي والدويتات الظريفة والاستعراضات الراقصة، تماماً مثلما يحجب عنا استمراء الجمهور لتقسيمة "الربيع" وتكرارها المتواصل حقيقة عزف فريد.
الحقيقة أن الجمهور الأوسع من المستمعين لا يتفهم أن يكون فريد العازف محلاً لأدنى انتقاد. وإذا كان المستمعون يختلفون في موقفهم من صوت فريد الأطرش وطريقة غنائه، فإن الأمر ليس كذلك في ما يخص عزفه، فالأطرش هو "ملك العود" بقرار الجماهير العربية، وليس بقرار النقاد ولا العازفين ولا المختصين.
توضح سمر سلمان دور الأطرش في جماهيرية آلة العود بقولها: "استطاع أن يحمل هذه الآلة من الصالونات الفنية والنخبوية إلى صفوف الجماهير الشعبية العريضة. ولم يحدث أن نالت آلة موسيقية ذاك القدر من التصفيق الذي كان ينفجر بمجرد ظهور عود فريد على المسرح حتى قبل ظهور صاحبه".
لقد بلغت آلة العود جماهيرية لم تعرفها قبل الأطرش الذي جعل الجماهير العربية تلتفت الى هذه الآلة وتتفاعل معها حتى أصبحت بالفعل شغوفة بها. ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن فريد الأطرش صاحب فضل على هذه الآلة. قدمها للناس بشكل مختلف وعزز مكانتها إذ جعلها سيدة حفلاته على المسرح، فساهم في تعريب الذوق الفني لدى قطاع واسع من الشباب الذي كان يرى في الغيتار الكهربائي آلة أثيرة في العصر الذهبي للفرق الموسيقية الغربية".
وبالرغم من كل ذلك، ومع الإقرار بمهارات فريد التقنية في العزف على العود، وقدرته الهائلة على الإطراب وإشباع الجماهير بجمل لذيذة وقفلات حراقة، فإن الاستماع إلى قائمة تسجيلات الأطرش للعزف على العود في مستهل حفلاته يكشف عن مساحة كبيرة جداً من التكرار، ليس بين تقسيمات الأغنية الواحدة في محافلها المختلفة فقط، بل بين تقسيمات تقدم في أغنيات مختلفة، ومحافل متباعدة زمنياً.
يعلق فادي العبد الله على هذه المفارقة بين الإبهار الشعبي وبين التكرار الذي لا يكاد يدركه إلا مستمع نخبوي بقوله: "هكذا يكون فريد الأطرش سبباً لعشق كثيرين لآلة العود وربما لتعلمهم لها، لكنه في نفس الوقت عازف لا نكاد نعرف له إلا تقسيمة واحدة أو نمطاً واحداً متكرراً من التقسيم، ونجهل تماماً الجوانب التي تربط عزفه بأساتذته ومجايليه، فنظلمه مرات كثيرة دون وجه حق".
تنقل بعض المصادر أن الموسيقي المصري البارز مدحت عاصم استمع إلى الأطرش مصادفة وهو يعزف بمعهد فؤاد الأول بالقاهرة فقال: "هو أمين المهدي في حلاوته، ورياض السنباطي في رقته، وفريد غصن في مقدرته، إنه عازف من طراز خاص، جمع الحلاوة والقدرة والرقة في ريشة واحدة". لكن لا أحد يعرف ما الذي سيقوله عاصم، لو أنه جمع أربعين أو خمسين تسجيلا لتقاسيم فريد، واستمع إليها متتابعة، ليجد أن أكثرها يأخذ نفس المسار، وأن بعضها يكاد يتطابق.
لعل أفضل ما يقدمه النقد لفريد الأطرش بمناسبة مرور نصف قرن على رحيله هو تخليص سيرته الفنية من كل أشكال الزيف والمبالغة التي روجها هواة "الظلم الفني"، الذين يبرهنون لأنفسهم ودوائرهم على صواب موقفهم من خلال ما يمكن تسميته "التفسير التآمري للحياة الموسيقية" الذي بلغ في بعض حلقاته حد الجزم بأن الأطرش تعرض في حياته إلى "تعتيم" متعمد.. ولا أحد يعرف كيف يمكن أن يتعرض رجل كان بطلاً لـ31 فيلماً سينمائياً ناجحاً إلى التعتيم؟ ثم كيف يمكن أن يقع التعتيم على رجل يدعمه جيش جماهيري يراه "الأعظم" صوتاً وغناء وتلحيناً وعزفاً؟