فرنسا والجرح الجزائري: استعادة سينمائية سجالية

23 يناير 2023
"إخواننا" لرشيد بوشارب: مزيج الوثائقي بالخيالي في سرد قصّة حقيقية (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

من الأمور اللافتة للانتباه في النتاجات السينمائية الفرنسية، المعروضة في مهرجانات دولية كبرى عام 2022، تناول أفلام عدّة موضوع العلاقة الشائكة بين فرنسا والفرنسيين العرب، ذوي الأصول الجزائرية، تحديداً. بينها 3 أفلام ركّزت على قضايا تاريخية وسياسية وإنسانية، مُرتبطة بفترة الاستعمار الفرنسي، لا تزال ملابساتها الساخنة تثير اضطرابات ومُشاحنات بين البلدين. ليس معروفاً إنْ كان إنتاج هذه الأفلام وعرضها صدفة، أو تَمّ وفقاً لدراسة مُسبقة، بمناسبة مرور 60 عاماً على انتهاء الاحتلال الفرنسي للجزائر.

في إطار هذه المناسبة، طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون باسم فرنسا، صراحة، الاعتذار عن وصفه النظام الجزائري بانتهاج سياسة "ريع الذاكرة"، حول حرب الجزائر، مؤكّداً على اعتراف فرنسا بالفرنسيين المولودين في الجزائر خلال الاستعمار، والمنتقلين إلى فرنسا؛ وبالمجزرتين اللتين حدثتا بعد توقيع اتفاقيات "إيفيان"، في 18 مارس/آذار 1962، التي أنهت حرب الجزائر. الأهمّ أنّ الرئيس طلب الصفحَ من الحركيّين، في حفلة أقيمت لتكريمهم في قصر الإليزيه. كما وافق مجلس الشيوخ على قانون طلب الاعتذار من الحركيّين وأحفادهم، وتقديم تعويضات، اعترافاً بالضرر الذي تسبّبت به فرنسا لهم ولعائلاتهم، الذين قُدِّر عددهم بـ90 ألف شخص، بينما تشير الأرقام الجزائرية إلى 130 ـ 160 ألفاً، تقريباً.

 

الحركيّون وواقعهم التاريخي

تخلّت فرنسا عن الحركيّين منذ عهد شارل ديغول، وتجنّبت الحديث عنهم. عندما استقبلتهم على أراضيها، عاملتهم كلاجئين. لم يتلقّوا من الفرنسيين، ولا حتّى من العرب الفرنسيين، مُعاملة لائقة. وُضعوا في مخيّمات مؤقّتة، لا تتوفّر فيها ظروف العيش. في بلدهم، نبذهم الجزائريون المقاومون، وبات الحديث عنهم مُحرّماً. وصفهم الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة بالعملاء، ورفض عودتهم إلى الجزائر عام 2000، رغم انتقاده ظروف إيوائهم. أما الرافضون لاتهامهم بالخيانة، فيقولون إنّ انضمامهم إلى الجيش الفرنسي لم يكن خيانة، بل ردّ فعل ناجماً عن خلافات مع "جبهة التحرير" حول سُبل المقاومة، إضافةً إلى الخوف من بطش المستعمِر، أو لضيق وسائل العيش والحياة الكريمة.

استناداً إلى هذه الخلفية، حقّق فيليب فوكون (1958) "الحركيّون (Les Harkis)"، انطلاقاً من علاقة ضابط فرنسي بمجموعته من الحركيّين، وما آلت إليه الأمور في النهاية. الفيلم ثاني روائي لفوكون، يتناول موضوع الحركيّين، بعد "الخيانة" (2005)، الذي اشتغل على الانقسام العميق بين الفرنسيين والجزائريين بخصوص 4 حركيّين، يعتبرهم الجزائريون خونة، بينما يشكّ الفرنسيون في كونهم عملاء مُزدوجين. يُحسَب للمخرج جرأته في تناول هذا الموضوع الشائك، الذي لا يزال يُعتَبر لدى الجزائريين من المُحرّمات المُرتبطة بتلك الفترة الصعبة في تاريخهم.

بالنسبة إلى فوكون، العودة إلى هذا الموضوع ليس غاية بحدّ ذاتها، أو بدافع الإثارة، أو النبش في الماضي، أو خرق المحرّمات. فالمخرج مولودٌ في حرب الجزائر، في مدينة "وجدة"، على الحدود المغربية الجزائرية. والده، المُجنّد في الجيش الفرنسي، عاصر تلك الفترة التاريخية الصعبة، التي أثّرت كثيراً في حياته. وأكثر ما تأثّر به موضوع الحركيّين. لذا، أكّد مراراً أنّه لا يزال يرى أنّ فرنسا فشلت في أداء واجباتها تجاه الحركيّين، وزوجاتهم وأولادهم.

 

 

"الحركيّون" ـ المعروض في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان "كانّ السينمائي، في "نصف شهر المخرجين" ـ تدور حبكته في بداية ستينيات القرن الماضي، حيث الخطر المحدق بمصير الجزائر، بعد دخول فرنسا في مفاوضات مع "جبهة التحرير الوطني"، ثم توقيع اتفاق على وقف إطلاق النار، وبوادر خروج من الجزائر، ثم المصير المظلم المُحدق بالحركيّين، وبغيرهم من الشباب الجزائريين، في إحدى القرى الجبلية، الذين دفعتهم الظروف (ضيق العيش والجهل والحاجة) إلى الالتحاق بالجيش الفرنسي، أو التعاون معه، ومُحاربة إخوانهم الذين يقاتلون الاستعمار من أجل الاستقلال. هذا كلّه عبر شخصية صلاح (محمد أمين موفق)، الذي دفعه الفقر إلى حمل السلاح إلى جانب المُستعمِر، ولم يندم أبداً على ذلك. لكنّ اقتراب موعد انتهاء الاستعمار حوّل حياته اليومية، وحياة زملائه أيضاً من أبناء بلدته، المجنّدين لدى القوات الفرنسية، إلى قلق وتوتّر كبيرين، بسبب خوفهم على مستقبلهم المُظلم.

يستلهم "الحركيّون"، القريب جداً من الأفلام التلفزيونية، حبكةً وأداءً ودراما وتصويراً، قصّة وفاء الجنرال فرنسوا مييه، الذي تبنّى قضية الدفاع عن الحركيّين، وأخرج رجاله وعائلاتهم من الجزائر، بوسائله الخاصة، مخالفاً بذلك التوجيهات الرسمية آنذاك. نجح في إرسال 350 شخصاً من الحركيّين إلى فرنسا، بينما الآلاف يُلاحَقون ويُقتلون. هناك، كرَّسَ جهوده للبحث عن قرى فرنسية لاستقبالهم، واستقرارهم فيها كمزارعين، وتواصل جهده أعواماً عدّة، للمساعدة على دمجهم في المجتمع. شخصية الجنرال تبدو جلية في شخصية المُلازم الشاب باسكال (تيو تشولبي)، المُمزّق بين الوفاء لرجاله الحركيّين، الذين يخشى عليهم من مصير مجهول، وإطاعته الأوامر الفرنسية، وخيانة الوعود المقطوعة بمنتهى النذالة.

 

بوشارب: بين الخيالي والوثائقي

في "إخواننا"، لرشيد بوشارب (1959)، يُحيي المُخرج وقائع قصّة حقيقية مهمّة للغاية، عن مالك أوسكين، الطالب الجزائري الذي قتله رجال الشرطة في باريس. قصّة تستحقّ وقائعُها التذكيرَ بها مُجدّداً، ونفض الغبار عنها، ونبش تفاصيلها. حاول السيناريو، الذي كتبته الروائية كوثير عديمي مع بوشارب، مُقاربة القضية الشائكة، عبر سرد وقائع ما جرى ليلتي 5 و6 ديسمبر/كانون الأول 1986، على خلفية التدخّل الشرطي القمعي العنيف، في مظاهرات طالبية ضخمة، ضد إصلاحات جامعية جديدة، عمّت فرنسا آنذاك.

من ناحية أخرى، يسرد الفيلم، في خيط درامي مواز، بسيط ومُؤثّر، ملابسات موت عبدل، الشاب الجزائري المجهول نسبياً، نتيجة عنف ضابط شرطة مخمور، في إحدى ضواحي باريس، بعيداً عن أحداث العاصمة. اختلاف الأحداث والملابسات يظهر في طرحٍ درامي، يتناول العائلتين الجزائريتين بطريقتين مُختلفتين، رغم تشابه الموقف والظروف والمصير. هناك شخص واحد يربط القصّتين إحداهما بالأخرى: المفتش دانيال ماتِيِيه (رافائِل بيرسوناز)، المُطيع والمُنفّذ لأوامر رؤسائه، الذي يُخفي خبر وفاة عبدل عن والده الميكانيكي واسيني (سمير القاسمي) وشقيقه خضر (ليث سلامة)، زاعماً أنّ الموجود في المستشفى شخصٌ مُصابٌ بجروح فقط، ولا يُمكن الوصول إليه بسبب الأحداث. بينما أولوية الشرطة، حينها، "تسوية" قضية مالك أوسكين (آدم عمارة)، المقتول في الحي اللاتيني، أثناء عودته إلى المنزل من حفلة موسيقية.

فوراً، أصبحت قضية مالك أوسكين رمزاً وطنياً، مُكتسبةً أهمية كبيرة. لكنْ، بالنسبة إلى أخيه محمد (رضا كاتب) وشقيقته سارة (لينا خودري)، أدّى الأمر إلى ألمٍ وغضب ورغبة في العدالة، وفي الوقت نفسه، أثار صدمةً وقلقاً ودهشة، لاكتشافهما أنّ مالك اتّخذ، سرّياً، خطوة التحوّل إلى الكاثوليكية، لاندماجٍ أفضل في المجتمع.

في "إخواننا"، دمج رشيد بوشارب الوثائقي والخيالي بفعالية ملحوظة، وتجلّت تلك المحاولات في دمج لقطاتٍ أرشيفية (تلفزيونية وإذاعية) بروائية، للاقتراب من الأحداث قدر الإمكان، وتحقيق أقصى مصداقية ممكنة، ما ترك بصمة سينمائية قوية في الذاكرة، وأبرز واقعة سياسية وتاريخية واجتماعية مهمّة للغاية. لكنْ، في النهاية، كان يُمكن تنفيذ الفيلم بشكل أفضل قليلاً، وتصوير الحزن والتوتّر والتأثير العاطفي للأحداث بمصداقية أكبر، من دون اختلال درامي وإيقاعي، وضعف أدائي ملحوظ.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

في فيلمه هذا (خارج المسابقة الرسمية لمهرجان "كانّ" الـ75)، حاول بوشارب، ببساطة، عبر دراما احترافية، ومن دون انتهازية وابتزاز عاطفي، تجسيد الضرر النفسي، والتأثير العاطفي المُدمّر للأحداث، وليس الاكتفاء بسرد وقائع تاريخية وروائية فحسب، عبر الاقتراب من أهالي القتيلين. طبعاً، فضح توّرط الشرطة، والتعليق على التحقيق الداخلي الخطر، الذي أجرته هيئة شكاوى الشرطة الفرنسية، وكشفه محاولات التستّر المنهجية، رفيعة المستوى، على وفاة مالك أوسكين. كما تعمّد التعتيم على الظروف المحيطة، وكيف (وهذا مخيف) أنّ محاولة التسترّ كادت تنجح، لولا شهادة الشهود، وعزم إحدى العائلتين وإصرارها على محاكمة الضبّاط المسؤولين.

 

"تحريك" ليلة الـ"سين"

أحداث ليلة 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 (ليلة أخرى دامية في تاريخ العلاقة الجزائرية الفرنسية)، رصدها فيلم رسوم متحرّكة، بعنوان "دموع نهر السين"، لـ8 مخرجين ومخرجات شباب فرنسيين، في أول عملٍ لهم، عُرض في الدورة الـ44 (28 يناير/كانون الثاني ـ 5 فبراير/شباط 2022) لـ"مهرجان كليرمون فيران للأفلام القصيرة" (فرنسا)، والفائز بجائزة مُستحَقّة في فئة "أفضل مؤثّرات خاصة": يانيس بلعيد وإليوت بونار وأليس لوتايّور ونيكولا مايور وإتيان مولان وأدريان بينو وفيليبّين سانجِر وليزا فيسانتي.

بخلاف تلك المؤثّرات، ودورها المحوري في الفيلم، فإنّ "دموع نهر السين" بالغ الإيجاز والتكثيف، ومدّته 9 دقائق، تُصوِّرُ تظاهرة عمّال جزائريين ضد حظر التجول الإجباري، الذي فرضته الحكومة الفرنسية آنذاك، مُمثّلة بشرطة باريس، وتحديداً برئيسها موريس بابون. حينها، هاجمت قوّات الشرطة مظاهرة سلمية، مؤلّفة من 60 ـ 65 ألف متظاهر جزائري، مُقترفةً مجزرة بشعة للغاية، اعترفت بها الحكومة الفرنسية لاحقاً، واعتذرت عنها مراراً. إلى آلاف المعتقلين، بلغ عدد القتلى بين 40 و200 شخص، والجرحى نحو 7 آلاف، كما أُلقِيَ 800 منهم في نهر الـ"سين" والمجارير. أو ببساطة: اختفوا من دون أثر، حتّى هذه اللحظة.

يُركّز الفيلم على الذين ألقي بهم في قنوات المياه القذرة والنهر، أو أطلقت عليهم نيران مُباشرة، قصداً، أمام شهود عيان، علماً أنّ هناك صُوراً فضحت بشاعة ما جرى. تأكّد هذا بالعثور على جثثٍ. هذا كلّه يسرده المخرجون بذكاء، بتركيزهم على شخصية الشاب الجزائري نبيل، الذي يتجوّل في أماكن التظاهرات، وتتعقّبه كاميرا مجنونة وشديدة الحيوية، ولا تهدأ، تنقل الوقائع الدموية، في تلك الليلة، ببانورامية ومهارة وتكثيفٍ، وبألوان صاخبة، يغلب عليها الأحمر القاني، وخلفية هائلة من الأصوات الحية والحماسية والمتداخلة.

المساهمون