برصيد ضخم من العروض الفنية الناجحة، المتسمة بالاستمرار عبر ثلاثة عقود، استطاعت فرقة الطنبورة البورسعيدية، أن تحجز موقعاً متميزاً ومكانة كبيرة بين محبي هذا الفن، الذي اشتهرت به مدن قناة السويس في مصر. فالأغنيات، والرقصات، والإيقاعات، وصوت الآلة، والتفاعل الجماهيري، عوامل تتضافر لتجعل من "السمسمية" سبباً مؤكداً لتحصيل البهجة وتحسين الحالة المزاجية. لكن أهم ما تتميز به فرقة "الطنبورة"، والقائمون عليها، هو ذلك الحرص الكبير، والجهد الواضح، لتوريث هذا الفن المحلي العريق للأجيال الجديدة من الأطفال والشباب، مع تحقيق إنجاز حقيقي في هذا الجانب، يقضي تماماً على هواجس الانقطاع، ومخاوف الاندثار.
في عام 1989، وضع "الريس" زكريا إبراهيم، اللبنات الأولى لتأسيس فرقة "الطنبورة"، بمشاركة عدد من كبار هواة فن السمسمية، الذي توارثوه عن آبائهم وأجدادهم. تضافرت جهود عدد من الورثة الشرعيين للفن، من أمثال الريس امبابي، والريس أحمد وليم، والأسطى محمد القط، والأسطى سعد أبو الشحات، كي تخرج الفرقة إلى النور، وتواجه الجمهور الذي كاد ينسى، بعد سنوات التجهير التي عاشها سكان مدن القناة، ومنهم مؤسس الفرقة، الذي هُجر من بورسعيد عام 1969 إلى السنبلاوين بمحافظة الدقهلية.
في سنوات التهجير، كانت السمسمية هي الوسيلة الوحيدة للمحافظة على الذاكرة والهوية، والتعبير عن الشوق للعودة إلى بيوت السويس ومدن الإسماعيلية وشوارع بورسعيد. لكن، بعد العودة، في عام 1974، والانشغال بإعادة الإعمار، وهبوب رياح "الانفتاح" العاتية، خبا الفن، وتوارى الأسطوات الكبار، ولا سيما بعد تحويل بورسعيد إلى "منطقة حرة"، وانشغال معظم الأهالي بلقمة العيش.
أدرك زكريا إبراهيم أن استعادة تراث السمسمية، يحتاج إلى جهد ضخم متواصل ومنظم، ويحتاج أيضاً إلى "عشاق" ممن يحبون الفن لذاته، من دون نظر إلى أي فائدة مادية تأتي من ممارسته.
من لحظة البدء، كان الريس زكريا يمتلك رؤية إحيائية تستعيد بها السمسمية مكانتها. هكذا، وجد في آلة الطنبورة ضالته، لتكون أول الطريق في تطوير يقف على أرضية صلبة من الأصالة. وكذلك، قرر الاستفادة من موروث ما يعرف بفن "الضمة"، وهي حلقات شعبية، تشبه السمسمية، لكن أغانيها تتميز كلها بقدر لافت من الحزن والشجن المؤثر. ومع آلة الطنبورة، ودمج أغاني الضمة، كان الركن الثالث للتطوير، متمثلاً في إدخال نصوص جديدة، وألحان جديدة، إلى جوار الموروث الضخم؛ فأصبحت الفرقة تقدم قديما متجدداً، وتراثاً متشبعاً بروح العصر.
وحتى بعد مرحلة التكوين، واجهت "الطنبورة" تحديات كبيرة، منها عدم توفر أماكن مناسبة لتقديم العروض، وأيضاً واجهت سلوكيات جماهيرية لا يقبلها من يحترم فنه. ومن أهم هذه السلوكيات، المقاطعة من الجمهور أثناء الغناء، ولا سيما في الأفراح، من أجل ما يعرف بـ "النقوط". وكان عاديا أن يسطو أحدهم على "الميكروفون"، ليحيي "العريس"، من دون اكتراث بأعضاء الفرقة، أو إخراج الجمهور من حالة الاندماج مع الأغنيات والرقصات.
ومن قبل، قد كانت تلك السلوكيات سبباً لعزوف أسطوات الفن عن الأداء أمام الجماهير. ولعل من أبرز هؤلاء، العازف محسن العشري، نجل حسن العشري، الذي يعده المهتمون بهذا الفن أفضل عازف للسمسمية في تاريخ مصر. هجر محسن الفن بسبب هذه السلوكيات، لكن المصادفة ساقت أباه إلى محفل لفرقة الطنبورة، فأعجب بها وبجمهورها المندمج تماماً مع المغنين، وأقنع ابنه بالانضمام إلى الفرقة، والعودة للعزف على آلته الأثيرة.
مع مرور السنوات، وتقديم العروض، اتسعت القاعدة الجماهيرية لفرقة الطنبورة، وتعددت أماكن العروض، وفقاً لمواعيد ثابتة، أسبوعياً في بورسعيد، على مقهى النجمة في بورفؤاد، وبعرض مجاني مفتوح، ومستمر منذ نحو ثلاثة عقود، وشهرياً في القاهرة بمسرح الضمة بعابدين، حيث اللقاء المنتظم مع جمهور القاهرة، وكثرت حفلاتهم في الأوبرا، وعرفتهم المحافظات المختلفة، ومسارحها المهمة، وبدأت الدعوات تنهال على الفرقة من خارج مصر، لينتقل هذا الفن المغرق في المحلية إلى آفاق جديدة، ولتشارك الفرقة في عدد كبير جدا من المهرجانات الدولية، محققة نجاحا كبيرا ولافتا، يدفع إلى مزيد من الدعوات، التي ترجمت إلى عروض في مختلف قارات العالم.
رغم هذه النجاحات المتوالية، والانتشار الواسع في مصر وخارجها، إلا أن هاجس الانقطاع ظل يشغل بال الريس زكريا. فقد شهد الرجل، خلال حياته، اندثار كثير من الفنون والصناعات، بعد رحيل أسطواتها الكبار، وزهد الأبناء والأجيال الجديدة في وراثة فنون آبائهم. و"الطنبورة"، في تكوينها الأول اعتمدت على فنانين متمرسين، يحبون هذا الفن، ويتقنون أصوله. كانوا موجودين أصلا، وبعضهم كان كبيرا في السن بالفعل. ومع رحيل هؤلاء الكبار، واحدا إثر آخر، أصبحت مخاوف الانقطاع تمثل قلقا حقيقيا مزعجا لمؤسس الفرقة، وأعضائها الأساسيين.
لكن يبدو أن الريس زكريا قد اعتاد على مواجهة التحديات. قرر الرجل أن يوجه جزءاً مهماً من جهد الفرقة لتعليم فن السمسمية إلى الأطفال والشباب. وجه نداء إلى أهالي بورسعيد الذين تعلقوا بـ"الطنبورة" وأغانيها: هلموا إلينا بأبنائكم وبناتكم، لينهلوا من نبع الأصالة والفن البورسعيدي الذي حفظ ذاكرة المقاومة، وليتلقوا فنون "الضمة" التي جمعت الآباء والأجداد في ليالي الدفء والأنس والشجن. وبدأ "المستجدون" بالتوافد، ومع قطعهم أشواطاً معتبرة من التعلم، ومشاركتهم في بعض العروض، وتلقيهم تشجيعاً كبيرا وحماسياً من الجمهور، ازداد الإقبال، وتوزعت المهام على فريق التدريب بقيادة العازف الأول في الفرقة محسن العشري: غناء، وعزف، ورقص.
غنائيا، تملك فرقة الطنبورة رصيدا ضخما، يتميز بالثراء والتنوع في شكله ومضمونه. تتناول الأغاني مختلف الجوانب تاريخيا واجتماعيا وعاطفيا. تتحدث عن البحر والصيادين، عن السفر والغربة، عن الحب واللوعة، عن ذكريات المقاومة الشعبية: "شفت القمر على صدر جميل.. ياكل حلاوة ثم يشرب خمير.. كل شيء له نظر.. يا حمام شيل.. كل شيء له نظر.. آه يا لدان يا لدان يا لدان.. آه يا حمام بتنوح ليه.. فكرتني بالحبايب.. وهل ترى نرجع الأوطان.. ولا نعيش غرايب.. يا طالعين القصر لفوق.. يا نازلين سلمولي.. على غزال بعيونه السود.. هو السبب في تلف روحي.. كل شيء له نظر". هذا مثال، من المخزون الكبير الذي يبدأ الأطفال في تعلمه. مهمة تحفيظ الأغاني أسندت إلى عضو الفرقة مرسي لاشين.
آليا، يتعلم تلاميذ الفرقة العزف على عدة آلات، تتقدمها بالطبع آلة السمسمية، ثم تأتي آلة الطنبورة، ومعها الناي والرق والصاجات والمثلث والطبول. وبينما يشرف قائد فريق التدريب محسن العشري على تعليم الوتريات، وينقل خبرته الكبيرة الموروثة إلى الأجيال الجديدة، يتولى سيد عزام تعليم الآلات الإيقاعية. صوت الوتريات، مع الإيقاع ذي الطابع السواحلي، هو ما يُكسب أغاني السمسمية خصائصها.
لكن هذا الفن لا يكتمل إلا بركنه الثالث، متمثلا في الحركة المصاحبة، أو الرقصات، وهي كثيرة ومتنوعة، وتحتاج إلى قدر كبير من التوافق واللياقة والسرعة، وتلك المهمة يتولاها الراقص والمدرب كريم رجب. من الضروري لكل مغن أن يتعلم تلك الرقصات، وكيفية استعراضها مع الصحبجية، وتجويدها بالمهارات الخاصة. الرقص على إيقاعات "السمسمية" يجعل من الابتهاج فريضة يؤديها الجمهور بالتفاعل مع الفنانين.
يمنح الأداء الحركي لفن السمسمية قدرا هائلا من الحيوية. يشعر جمهور الحاضرين بالنشاط يدب في أوصالهم. لا يملك بعضهم أن يستمر في سكونه، فينهض ليشارك في الرقصات بقدر استطاعته. ينبهر الجمهور بالأطفال الذين حصلوا هذه المهارة، مثلما ينبهرون بأداء كبار السن، الذين يثبتون بأدائهم تلك الرقصات أنهم يحملون قلوبا شابة، وأرواحا شابة، وأن معاني الشيخوخة لا تتسرب إلى وجدانهم، على الأقل خلال تلك الأوقات، التي يتحرر فيها الجسد من قيود الوهن أو الضعف أو المرض.
آتت شجرة الطنبورة أكلها، وأينع ثمرها، وشهد الجمهور شبابا صغيرا، بل شهد أطفالا في عمر 10 أو 12 عاما، يقفون في ثقة لأداء الأغنيات والأدوار والرقصات بإتقان وشغف. أصبح من المعتاد أن يستمع الناس إلى طفل يغني: "احنا البمبوطية ولا لنا مثال.. تجار بحرية نعمل في القنال". أو يتمايلون مع طفل يؤدي: "أنا عجبني مثل.. روح للحبيب قوله.. لو كان حبيبك عسل.. ما تلحسوش كله". أو: "أنا بورسعيدي أصيل يا ابنيز. أنا واد مدردح يا أخينا.. أجدع فتوة ما يعجبني.. اسأل عليا في المينا".
تلاشت هواجس الاندثار.. رصيد الفرقة في بنك الأجيال الجديدة تضاعف.. تفاعل شعب بورسعيد مع النجوم الصغار كان أكبر من المتوقع.. قدمت فرقة الطنبورة نموذجا استثنائيا في توريث الفن المحلي وحمايته من الانقطاع أو مواجهة مصائر فنون أخرى لم تجد من يحميها.. الجيل الجديد من المغنين والعازفين والراقصين أثبت أن "السمسمية" باقية، وأنها في مقاومتها للعولمة والاجتياح الثقافي، وفي معركتها للحفاظ على الهوية قد انتصرت.. انتصر الريس زكريا.