غوريلا أحمر وسط باريس: أورلينسكي وتسليع الفن

01 اغسطس 2022
طول تمثال الغوريلا 5 أمتار ويقف في ساحة الكونكورد (جويل ساجيه/فرانس برس)
+ الخط -

ما زالت منحوتة "باقة التوليب" التي أنجزها جيف كونز عام 2019 حاضرة في باريس قرب متحف "القصر الصغير". الباقة التي تعرضت للكثير من الانتقادات وعمليات التخريب، نجت بالرغم من قباحتها وعدم ارتباطها بتاريخ المكان، لكن بلدية باريس قررت إبقاءها. فالباقة والزهرات الـ11 التي تكونها هدية كونز للمدينة، وتمثل تحية لمن سقطوا أثناء هجمات باتكلان الإرهابية عام 2015، وعلامة على أن مزيج الفن والمال قادر على تجاوز الجمال والذوق، وتحويل مدينة باريس من عمل فني تاريخي إلى مساحة لاستعراض "الكيتش المَهيب" Sublime Kitsch، حسب التعبير الذي يصف أعمال كونز وغيره من الفنانين المعاصرين. 

مزاج السخط المرتبط بهذا النوع من الأعمال ازداد أخيراً حين فوجئ سكان مدينة باريس بتمثال غوريلا أحمر، طوله 5 أمتار، يقف في ساحة الكونكورد، حيث المسلة المصرية والنافورتان اللتان تعودان إلى منتصف القرن التاسع عشر. الغوريلا من تصميم وصناعة ونحت ريتشارد أورلينسكي Richard Orlinski "الفنان الفرنسي الأكثر مبيعاً في العالم"، حسب ما نقرأ في تعريفه عن نفسه في موقعه الرسمي، من دون أي إثبات على ذلك حسب الصحف الفرنسية، التي تسخر منه وتتبع باقي المنحوتات المنتشرة في أنحاء المدينة. 

يُقال إنّ أورلينسكي استفاد من خبرته كرجل أعمال ودراسته الاقتصاد والترتيبات الصغيرة مع بعض القائمين على عالم الفن، ليعرض "حيواناته" في أنحاء باريس رغم أنف الجميع. هذا الشأن أثار حفيظة الكثيرين، لا لأنّ الغوريلا لا ينتمي لوسط المدينة التاريخيّ (كحالة باقة كونز)، بل لأن هذه الأعمال لم تخرج من المتحف أو صالة العرض، بل من واجهات محلات البضائع الـLUX (أي الفخمة والباهظة الثمن)، وهذا بالضبط ما يشكل تهديداً للفنانين أنفسهم. فأسعار العرض في الأماكن التاريخية وذات الطابع السياحي لا يمكن لفنان تحملها لوحده ولا حتى الصالة التي يتبع له، وهنا نكتشف أن أورلينسكي فرض نفسه فرضاً على الساحات العامة. ففي بينالي البندقية الأخير، لم يكن مدعواً، بل استفاد من ذات المقاربة ليعرض أعماله في أنحاء المدينة طوال فترة المهرجان، شارحاً مقاربته هذه بقوله أنه يسعى لكسر القواعد المتعلقة بأسلوب عرض الأعمال الفنيّة، إذ يرى أنّ المساحات العامة والمجانية تخاطب جمهوراً أكبر. لكن لحظة، هو يدفع مقابل ذلك، ناهيك عن أنه لا يصنع بيده، بل يستخدم الفنيين والحرفيين لصناعة "المُنتَج"، الذي يقوم هو لاحقاً بالترويج له والاستفادة من علاقاته لتقديمه كـ"فن". 

المريب في حالة أورلينسكي هو انتشار أعماله، إذ تبدو كأنها في كلّ مكان، لكن دقائق من التفكير والتأمل تكشف لنا أنها في أماكن منتقاة بدقة، هو يستهدف المساحات التي تحوي السيّاح والمتسوقين، ففي الشانزيليزيه مثلاً، نرى غوريلا أيضاً أمام محل لويس فيتون. وهنا المفارقة، الهدف من هذه المساحات المستأجرة عرض البضائع والترويج لها، فالمنحوتات التي نراها لم تصنف أعمالاً فنية أو فناً عمومياً Public Art ضمن الموافقات الرسميّة، هي زينة يجرى استئجارها لالتقاط الصور وجذب المستهلكين، وهذا ما يتناقض مع ما يقوله هو، أي الانفتاح على المساحات العامة والمجانية كي يتيح للجمهور مشاهدة "منحوتاته". فهو يستهدف المستهلكين لا الذواقة، والمعروف أن أجرة المتر المربع في المكان العام في باريس تتراوح بين 1000 إلى 6000 يورو، أي نحن أمام "سلعة" بالمعنى الحرفي، خصائصها الجمالية ثانوية، أمام سطوة رأس المال واستراتيجيات التسويق.

لكن، لنفكر مرة أخرى في الغوريلا العملاق، أو الـWild Kong، ما المقصود به؟ الرهان على الهالة وضخامة العمل واسم الفنان؟ لا نعلم، لكن ما يمكن التيقن منه هو التجاهل التام لتاريخ كينغ كونغ أو الغوريلا العملاق، سواء كنا نتحدث عن الكائن الأسطوري المنفي في جزيرة الجمجمة، وتحوله إلى علامة على عنف الإنسان الأبيض- المستكشف، الذي يروض البري لأغراض ترفيهية كما في سلسلة الأفلام الشهيرة، أو كنا نشير إلى تجاهل تاريخ كينغ كونغ الجندري، ومانيفستو كينغ كونغ الشهير المنشور عام 2006  في فرنسا، والذي يتناول هذا الكائن بالانتقاد، ويعيد تعريفه من وجهة نظر علاقته مع الأجساد ما بعد الإنسانوية. لكنّ كل ما سبق لا يهم، نحن أمام "عمل زينة" عملاق، يراهن على المتخيل الشعبي والحجم الهائل لإثارة الفضول، وجذب عارضي وعارضات الإنستغرام لالتقاط الصور بجانبه، يكفي أن ننظر إلى حساب أورلينسكي على إنستغرام، لنتساءل، هل نحن أمام نحّات يعمل ساعات طوال لإنجاز تماثيل عملاقة؟  أم "أنفلونسر" يوظف ثروته لصناعة منتجات "Lux" ثم بيعها للأغنياء؟ 

المساهمون