لا يخفى على أحد أن الأميركي جيري ساينفلد واحد من أبرز الكوميديين في العالم، وفي الوقت نفسه، هو واحد من أبرز داعمي دولة الاحتلال الإسرائيلي، ليس فقط لأنه يهودي، بل لقضائه، في عمر الـ16، فترة زمنية متطوعاً في أحد الكيبوتسات، كما أن زياراته المستمرّة إلى الأراضي المحتلة تشعل الجدل في كلّ مرة، ليتكرر سؤال: كيف يمكن لكوميديّ أن يدعم كياناً استعماريّاً؟
لكن كل ذلك يمكن فهمه بسبب السياق الذي يعمل ضمنه، وإيمانه الشخصي. لكن، ما لا يمكن فهمه في زيارته الأخيرة، لا يتعلق فقط بلقائه مع الرهائن الذين أُطلق سراحهم، بل بإعادة تداول صورة له تعود إلى عام 2018، وهو يحمل بندقية M16 إلى جانب جندي من الجيش الإسرائيليّ، بعدما خضع لتمرين على "مكافحة الإرهاب".
لساينفلد صور سابقة أخرى بجانب معدات عسكرية إسرائيليّة، كتلك التي التقطها عام 2018، وشاركتها صفحة الجيش الإسرائيليّ. لكن الصورة القديمة، وهو يبتسم ويحمل بندقية M16 محتفياً بالسلاح، تثير القشعريرة: كيف يمكن لكوميديّ أن يحمل سلاحاً، بل ويروج لاستخدامه؟ هذا أمر يتجاوز الانتماء الديني نحو عماء وتطرّف أيديولوجي.
جيري ساينفلد سلاح في ترسانة إسرائيل الإعلامية
لا نعلم بدقة كيف نقرأ الصورة التي انتشرت أكثر من تلك التي التُقطت له في لقاء مع الرهائن الذين أطلق سراحهم، وهو يرتدي قلادة تحمل عبارة "أطلقواً سراحهم". فهل يمكن لساينفلد، الذي تعتمد الكوميديا التي يقدمها على الملاحظة ورصد هزليات الحياة اليوميّة، أن يكون أعمى إلى حد تجاهل كل ما قام به الاحتلال الإسرائيلي؟ نعم، هذا ممكن. لكن أن يحمل سلاحاً، يعرف بدقة أنه سيقتل الأطفال والمدنيين، خارج سياق النكتة، يعني أن الكوميديا مهما كانت انتهاكية وصادمة، أمست عاجزة أمام أيديولوجيا الضحيّة التي ترغب بالانتقام الأعمى.
Jerry Seinfeld lands in Israel in show of solidarity. THANK YOU! pic.twitter.com/RssCM7ziwJ
— Hananya Naftali (@HananyaNaftali) December 19, 2023
يقول الكوميديان الساتيري جون ستيوارت، اليهودي أيضاً، ما معناه أن إسرائيل تصادر حق اليهود في العالم بالتعبير عن أنفسهم، بل تفرض عليهم دعمها. ويمكن سحب التأويل هنا نحو ظاهرة لافتة في أوروبا والولايات المتحدة، وهي سقوط الانتماء الوطنيّ لليهود، وتحولهم إلى مواطنين إسرائيلييّن، حتى لو لم يحملوا الجنسيّة. نحن هنا، وكما في حالة ساينفلد، أمام تضامن ديني أعمى، يحرّكه ببساطة مفهوم "أرض الميعاد".
يكتشف المتتبع لسيرة ساينفلد توظيفه بعض نكات الهولوكوست، النوع الفنيّ الذي ظهر في الولايات المتحدة، ومن المفترض أنه يحافظ على مركزية المقتلة، لكنه في ذات الوقت يكسر الهالة المحيطة بها، وفي ذات الوقت يدعو إلى التفكير في نتائجها، وأبرزها دولة إسرائيل نفسها ومفهوم "أرض الميعاد". لكن، يبدو أن هذه المقاربة غير ناجحة في حالة ساينفلد، وهذا ما يثير الرعب. الصورة تعني أن الكوميديّ في لحظة ما قد يحمل السلاح، أليست هذه نكتة مرعبة بحد ذاتها؟ أن يتحول من يلقي نكات إلى جنديّ أيديولوجي وماكينة قتل؟
زار ساينفلد كيبوتس بيئيري ومكان مهرجان نوفا الذي شهد عملية طوفان الأقصى، بل اختبأ في أحد الملاجئ أثناء قصف صاروخي لحركة حماس. لكن السؤال: ما الذي يمكن أن يقدمه ساينفلد في زيارته ميدان المعركة؟
زيارة الملياردير الأميركي إيلون ماسك، مثلاً، مبررة، هو يتحكم بالاتصالات وزيارته يتكن قراءتها على عدة مستويات، لكن ماذا يمكن للكوميديان أن يضيف؟ التضامن؟ النكات؟ يمكن القول إن ساينفلد في هذه الزيارة ليس إلا "سلاحاً" في ترسانة إسرائيل الإعلاميّة، يضاف إلى قائمة المشاهير الذين يقدمون الدعم الأعمى لدولة الاحتلال، كحالة الممثل جون فويت، والد أنجلينا جولي الذي نوعاً ما "تبرّأ" من ابنته ونعتها بـ"الجاهلة"، ولا تدرك أن إسرائيل الآن تخوض "معركة الربّ".
هذا "التسليح" لا بد له لاحقاً أن يدفعنا إلى إعادة النظر في فن الكوميديا الذي يخرج من أميركا نفسها، أي لنكن هوياتين أكثر، وأكثر إمعاناً في التصنيفات، لأن رد العدوان الإسرائيلي الوحشي قسّم هوليوود؛ فهل نصطف إلى جانب الكوميديّ الذي يحمل السلاح؟ هل يمكن أن نضحك من دون أن تطاردنا صورة الـM16؟
غال غادوت... كأنها ناطق غير رسمي باسم جيش الاحتلال
في هذا السياق، تطُل علينا الممثلة غال غادوت أيضاً. تردّد اسمها لأول مرة عام 2013، حين تقرّر اختيارها لتؤدي دور Wonder Woman بنسخته التي صدرت عام 2017. حينها، اشتعلت وسائل الإعلام والصحف بانتقادات حادة؛ بسبب اختيار غادوت لتؤدي الدور. حينها لم تكن غادوت ممثلة، بل عارضة أزياء وجندية سابقة في جيش الاحتلال الإسرائيلي؛ إذ عملت مدربةَ لياقة، وانتشرت حينها صور لها بالزي العسكريّ، في محاولة لثني شركة الإنتاج عن هذا الخيار. بالطبع، فشلت الجهود الشعبية، وأصبحت غادوت نجمة في هوليوود.
في عام 2021، تعرضت لحملة انتقادات إسرائيليّة حين غرّدت متعاطفة مع ضحايا غزّة حينها، ونعتتهم بـ"الجيران". لكن هذه اللهجة اختفت بعد عملية طوفان الأقصى، بل اضطرت إلى حذف تغريدة تدين فيها القتل في غزة، لتتحول بعدها إلى ما يشبه الناطق غير الرسمي باسم الجيش الإسرائيليّ، لتمتلئ صفحة "إكس" الخاصة بها بأخبار ونشرات دورية تدعو إلى تحرير "المخطوفين".
لن نعلق على أداء غادوت كممثلة، ولا ما يتعلق بمسيرتها المهنيّة والإخفاقات الأخيرة. لكن لا يمكن إنكار أن "دورها" الجديد، كناطق غير رسمي باسم الجيش، يساهم في دفع مسيرتها المهنية في هوليوود، خصوصاً أن الفيلم الأخير الذي لعبت بطولته Heart Of Stone لم ينل إعجاب النقاد، إلى حد وصفه في صحيفة ذا غارديان بأنه "يقدم ما يكفي من متعة الصيف الغبيّة ليحرك فينا الفضول للمزيد".
وُظّفت غال غادوت للترويج لما سُمي بـ"فظائع حماس"، إذ كانت المسؤولة عن تنظيم عرض الـ45 دقيقة التي أنتجتها وزارة الدفاع الإسرائيليّة، العرض الذي جرى في لوس أنجليس، تلته مناوشات خارج صالة العرض، وبالطبع لم تكن غادوت حاضرة. وهنا المفارقة، لمَ لمْ تكن وزارة الدفاع الإسرائيليّة هي المسؤولة مباشرة عن "الفيلم" الذي أنتجته؟ غادوت هنا ببساطة، وإن أردنا المبالغة، تتبع الأوامر. التغريدة المحذوفة والتحول إلى ناطق غير رسمي نتاج أوامر بصورة ما، ليست فقط نتيجة إيمان شخصي.
المستوى الثاني لتوظيف غادوت كان نسويّاً، بعد انتشار مزاعم لم تثبت صحتها عن انتهاكات جنسيّة بحق الأسرى الإسرائيليين، تحولت غادوت إلى ناشطة نسويّة، وبدأت بمشاركة منشورات لحشد الحراك النسويّ، بقولها مثلاً إن "الاغتصاب جريمة إلّا في حال كانت الضحية إسرائيليّة". غادوت هنا تساهم في الدعاية الإسرائيلية التي تحاول استمالة الجبهات كلها إلى صالحها، حتى لو على حساب الحقيقة. نحن إذاً أمام "نسويّة عسكريّة"، تراهن على الهويات والقضايا النسوية والكويريّة، لاستمالة الرأي العام.
صفحة غادوت الآن على "إكس" أشبه بصفحات الذباب الإلكتروني، لا آراء، لا تغريدات، مجرد فيديوهات للأسرى مع ذات الوسم، وكأن هناك خوفاً من نوع ما، وكأنها لا تعبر عن آرائها الشخصيّة، في حين أنها في نفس الوقت، تروج لأفلامها الجديدة وكأن شيئاً لا يحدث في غزة. وهنا مفارقة غريبة، هي ناشطة "نسوية" عسكريّة من جهة، ومن جهة أخرى ممثلة ذات مسيرة مهنية واعدة في هوليوود، بمعزل عن دورها الأول.
لكن انشرت أخبار تنفي انضمامها إلى الجيش الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر، ما يعني أن الصورة النمطية عنها أنها "جنديّة" ومستعدة للدفاع عن "وطنها" وترك "كل" شيء وراءها، ليست سوى كذبة. المستويات التي تتحرك ضمنها غادوت تهدف إلى تحويل حركة حماس إلى "الشر الأعظم" الذي لا تمكن محاورته، بل لا بد من إبادته، وما هي أيقونات هذه "الإبادة" في هوليوود؟ غال غادوت والكوميدي جيري ساينفلد.
نحن أمام جهود علنيّة في سبيل السردية الإسرائيليّة، تلك التي تحشد "الكل"؛ ممثلين ومؤثرين وشخصيات علنيّة، وكل من يمتلك صوتاً في سبيل نطق العبارة السحرية "هل تدين حماس؟"، والتأكيد أن ما يحصل في غزة "دفاع عن النفس"، وليس حرب إبادة، عجز المجتمع الدولي عن إدانتها بجلاء، أو حتى الدعوة إلى وقف إطلاق نار.