غابور ريز (1/ 2): "عندما أكتب أحبّ عادةً تسلية نفسي"

14 أكتوبر 2024
غابور ريز وجائزة أفضل فيلم في "آفاق فينيسيا 80" (ستفان كاردينالي/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "تفسيرٌ لكلّ شيء" يعكس المجتمع المجري من خلال قصة آبل، طالب الثانوية الذي يرسب في امتحان شفهي، وتتحول قضيته إلى جدل وطني بسبب شارة وطنية على سترته، مما يُبرز الانقسام السياسي بين اليمين والليبراليين.
- يعتمد الفيلم على سرد فريد يُظهر التباين بين وجهات النظر المختلفة، ويستخدم السخرية السوداء لإبراز التوترات السياسية والاجتماعية وتأثيرها على الشباب.
- يُظهر الفيلم بحث آبل عن الحرية والحب بعيداً عن الضغوط السياسية، ويستخدم إيقاعاً متغيراً للتعبير عن تعقيد الحياة الواقعية في المجر.

 

"تفسيرٌ لكلّ شيء"، ثالث فيلم طويل للمجري غابور ريز. فيلمٌ مستقلّ كبير، يُنجز بفضل سرد فصلي وكورالي. صورة إشعاعية للمجتمع المجري، وكيف يغدو سوء تفاهم بسيط حول لباس طالب، في امتحان البكالوريا، مطيّة لضجّة إعلامية كبرى، تُغذّي أيديولوجيا اليمين المتطرّف.

يرسب طالب الثانوية آبل في امتحان شفهي مصيري، لكنّه يخفي السبب الحقيقي لفشله، خوفاً من ردّة فعل والده الصارم والمتطلّب معه. يدّعي أنّ ملاحظة عابرة لمُدرّس التاريخ، ذي الميول الليبرالية، عن شارة وطنية (ذات حمولة قومية مرتبطة بثورة 1848 ضدّ حكم الهابسبورغ)، يضعها آبل على سترته، تقف وراء التنقيط السيئ الحاصل عليه. تتلقّف الصحافية اليمينية إريكا الخبر. تُضخّم جانبه السياسي بتشويه الحقائق، وتخلق منه حدثاً، فتكبر الضجّة ككرة جليد، ويتحوّل الحدث إلى قضية وطنية بفعل التقاطب الحادّ القائم في المجر بين أنصار اليمين والمعسكر الليبرالي.

يُظهر الفيلم، بكياسة وذكاء، تمفصلات الوضع السياسي في المجر، وانعكاساته على العلاقات المجتمعية، مُعتمداً على حسّ سخرية لا يخلو من قتامة، مع بنية سردية مُتفرّدة تُنوّع وجهات النظر، وتأخذ وقتها (151 دقيقة) في سبر العادات اليومية لآبل، ثم ّاستطلاع يومٍ في العمل رفقة والده جورجي وآرائه المُحافظة، قبل أنْ تقرّبنا من وجهة النظر الليبرالية، التي يمثّلها مُدرّس التاريخ ياكاب، المُجِدّ في عمله رغم مشاكله مع رفيقته في الحياة.

وسط أجواء الصخب الإعلامي السريالي، والنقاشات الفظيعة بين البالغين، يبدو آبل وزملاؤه تائهين ومُغيّبين. وحدها اللحظات التي يخلو فيها آبل إلى نفسه أو حبيبته يانكا، بحثاً عن حرية، تمنحهما القليل من الحياة. ولعلّ في إقدام المخرج على التوحّد مع هذه المشاهد الشعرية، بعيداً عن دواليب الحبكة الرئيسية، موقفاً قوياً يقول به إنّه يقف في صفّ هؤلاء الشباب ضدّ التجاذبات الإيديولوجية، والمزايدات الشعبوية، باسم الحرص على مستقبلهم.

 

(*) أول ما لفت انتباهي في فيلمك أنّ الجزء الأول مُتأمّل وبطيء للغاية. لكنْ، بمجرد اجتياز آبل الامتحان، يُصبح الإيقاع أسرع بكثير، وتتوالى الأحداث.

لذلك أحرص على القول للمشاهدين، عند تقديم الفيلم، إنّه مُهمّ أنْ يظلّوا منتبهين إلى ما يحدث. أخشى أنْ يستخلصوا بعد أول 30 دقيقة أنّ الفيلم كله سيكون على الإيقاع البطيء نفسه. مسألة الإيقاع مهمّة لي. أردتُ صنع فيلم بطيء أساساً، لكنّه يغدو سريعاً عند بدء النقاشات عن الامتحان، وما حدث فيه.

 

(*) هل توصلت إلى هذه البنية باكراً، أثناء الكتابة، أم بعدها؟

كان ذلك في الكتابة لا في المونتاج. هناك مرحلة أدركت فيها أنّ هذا المشروع يتعلّق بفهم شخصية آبل، ليس من الجمهور فقط، بل منّي أنا أيضاً. لذا، اغتنمت الجزء الأول لتطويرها. كتبت عن يوم آبل بضمير المتكلّم المفرد. وعندما بدأت كتابة يوم الأب، أدركت أنّي بحاجة إلى تغيير زاوية النظر، لأتمكّن من فهم الأب أيضاً. من هنا جاءت بنية السرد. أتذكّر متى تبلورت الفكرة بالضبط. لكنْ، هناك نقطة محدّدة قرّرت فيها أنّه، في منتصف الفيلم تقريباً، يتغيّر المنظور، ويصبح أكثر موضوعية، مقارنة بالبداية المتّسمة بالذاتية. إذا تأمّلت لغة الكاميرا، هناك غلبة للّقطات الواسعة في الجزء الثاني، مُقارنةً باللقطات القريبة في البداية، لأنّي أردت أنْ أكون موضوعياً أكثر.

 

(*) مشهد الامتحان مركز البنية السردية. انطلاقاً منه، تتغيّر وجهة النظر، ويُصبح الفيلم مختلفاً كلّياً. ما هدف هذا الانعطاف الحادّ؟

عندما تحدّثت مع مدير التصوير (كريشتوف بَشاي ـ المحرّر) عن وجهة النظر الإخراجية، قلتُ إنّ التركيز على آبل يجب أنْ يتمّ عبر مشاهد متابعة بالكاميرا، واستخدام لقطات قريبة كثيرة توحي بالذاتيّة. عند استكشاف المُدرّس ياكاب، يجب أنْ نفعل الشيء نفسه. لكنْ، في المونتاج (فاندا كوراكْس وغابور رايس ـ المحرّر)، الأمر مختلفٌ، لأنّ يوم الامتحان صعبٌ ومُرهق من وجهة نظر آبل، فهذا اليوم يُحدّد مستقبله كلّه، ومهمّ أنْ نحصل على الإحساس بيوم طويل، ما يُحتّم علينا استخدام لقطات طويلة كثيرة.

بالنسبة إلى المدرّس، هذا مجرّد يوم عمل عادي، لا شيء مميّزاً فيه. لذا، قرّرنا توليفه بإيقاع أسرع، تجلّى في توالي الطلاب المختلفين على طاولة الامتحان في فترة وجيزة، كي لا نعطي انطباعاً بالتركيز على أيّ شيء مميّز بعينه.

 

 

(*) ما يثير الإعجاب أيضاً أنّ الفيلم، وإنْ يكن سياسياً، فيه مشاهد طويلة ذات طبيعة شعرية، لا ترتبط مباشرة بالحبكة الرئيسية. أقصد مشهد آبل على درّاجته، أو مشهد الختام الرائع. أكانت هذه المشاهد موجودة في السيناريو، أمْ أنّك وجدتها عند التصوير؟

هذا سؤالٌ جيّد جداً. النية وراء مشهد الدرّاجة الهوائية إظهار أنّ ما يهمّ آبل في نهاية هذا اليوم الرهيب ليس الامتحان أو الأمور السياسية ـ القومية، أو أي شيء من هذا. ما يهمّه فقط يانكا، الفتاة المُغرم بها. عند لقائه إياها، يُصبح ركوب الدرّاجة والحياة برمّتها أسهل. في هذا المشهد أيضاً، يُدرك أنّه واقع في الحب حقاً، فيستنتج أنّ أمور الحياة تبدو مؤاتيةً من هذه الناحية، لكنّها من ناحية أخرى تبدو سيئةً، لأنّ أفق مستقبله أضحى أضيق.

في السيناريو، هناك إشارة إلى أنّه يركب الدرّاجة في المدينة، ويشعر بقليل من الحرية التي تستبق، بطريقة ما، الحرية المُطلقة في مشهد الختام. في نهاية المطاف، بعد مروره من كلّ هذه القصة المُعقّدة، ينتابه شعور آخر مختلف.

أعتقد أنّنا، عند بلوغنا 18 عاماً، نحتاج إلى اتّخاذ قرارات مصيرية بشأن اختيارات الجامعة والوظيفة المستقبلية، ونلج البداية الحقيقية لمرحلة البلوغ. هناك صيفٌ بين نهاية الدراسة الثانوية واختيار الجامعة، يمثّل فترةً قصيرة من الوقت، نشعر فيها بالحرية للمرّة الأخيرة. إنّه مشهد شاعري، لكنّه يُعبّر أيضاً عن هذا الشعور الواقعي من الحياة.

 

(*) هذا المشهد الأخير رأيته أيضاً طريقة قولٍ بأنّك تقف إلى جانب هؤلاء الشباب، لأنّ الجميع يتظاهرون بأنّهم في صفّهم، لكنّهم يستخدمونهم للترويج لوجهة نظر أيديولوجية ما؟

نعم، بالتأكيد. في الواقع، هناك إجابات محتملة كثيرة على سؤالك، لأنّي لا أريد قول وجهة نظر أيديولوجية باستخدام جيل الشباب، حتّى لو كان ذلك صحيحاً، كما قلتَ. هناك أسباب درامية لهذه النظرة، إذْ لم يكن لدينا وقت كثير، بينما ينبغي أنْ نتمثّل أماكن وشخصيات كثيرة. وإذا بدأنا استكشاف الجانب السياسي للشباب، سيتعقّد الأمر جداً، ويستحيل تقريباً تمثّله في فيلمٍ واحد.

لم أرغب أيضاً في النظر إلى الشباب كأبطال سياسيين. فضّلت إظهار كيف أنّهم، حين ينشأون في بلدٍ كهذا، ووسط نقاشات وجدالات فظيعة، ستكون هناك انعكاسات مُروّعة عليهم. خاصةً أنّي أعتقد أنّ سنّ الـ18 يُمثّل اللحظة التي تتعلّم فيها كيف تسقط في الحب، وما الذي يمكنك فعله بحريتك، وأشياء من هذا القبيل تُمكّنك من اكتشاف العالم حولك.

 

(*) لمسة الكوميديا السوداء مهمّة جداً؟ ما الذي تعتقد أنها جلبته؟ أو مَكّنتك من القيام به؟

حتى لو بدت سوداوية قليلاً، فإنّها لي مجرد سخرية من الواقع. عندما أكتب، أحبّ عادةً تسلية نفسي. أحياناً أدرك أنّي أحبّ كتابة نكات، ليس بالمعنى الكوميدي الصريح، بل تخيّلات ساخرة عمّا يمكن أنْ يحدث في موقف واقعي. لذا، لا أختار أبداً نوعاً أو نمطاً معيناً من الكتابة، ككتابة الكوميديا. في هذه الحالة، أردت صُنع فيلمٍ عن الحياة الواقعية في المجر، وعن الفترة الحالية. وبما أنّ الحياة مُثيرة للسخرية حقاً، أحياناً، اعتماداً على الزاوية التي تختارها لفهمها، فإنّ السخرية ربما تكون ناجعة ومثيرة للاهتمام.

أتفهّم لماذا يبدو الأمر لك سوداوياً بعض الشيء، لأنّ الفكاهة المجرية تكون ساخرة حقاً، وأنا مجري (يضحك).

المساهمون