عودة إلى الجنوب... "شبابيك" مفتوحة على فناني النوبة

23 يناير 2021
الموسيقي حمزة علاء الدين (1929 ــ 2006) في مهرجان نيوبورت الشعبي 1964(Getty)
+ الخط -

ماذا نعرف عن النوبة؟ قد يدور الجواب البديهي لأغلب المصريين خارج المحافظات الجنوبية حول 3 أفكار: قصة المجنّد الذي اقترح أن تبقى اللغة النوبية هي شيفرة حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ومسلسل التحريك "بكّار" (1998)، ومحمد منير طبعاً.

وهذا الأخير تحديداً يعتبر من أشهر الأيقونات الأسوانية في الثقافة الشعبية الحديثة في مصر. إذ يرتبط بشكل شبه منفرد بالفنّ الغنائي النوبي، كونه الأكثر الشعبية، والوحيد تقريباً الذي عرف كيف ينتقل من صورته النوبية إلى صورة مصرية أوسع وأكثر شمولاً.

لكن في الحقيقة فإن منير جزء (أساسي) من مشهد أكبر وأوسع لفنانين نوبيين لم يعرفوا النجاح الذي عرفه "الكينغ" لأسباب كثيرة، بينها أنه كان أذكى في اختياره للفنانين والمنتجين الذين تعاون معهم. ونذكر بشكل أساسي هنا تعاونه مع فرقة يحيى خليل التي سجّل معها واحداً من أهم وأبرز ألبوماته على الإطلاق وهو ألبوم "شبابيك" (1981).

نجاح منير الكبير هذا ظلّل تجارب فنانين نوبيين آخرين، بعضهم كان لهم دور في مسيرته. هنا، لا بدّ من التوقّف أمام تجربة أحمد منيب (1926 ــ 1991) الذي يعتبر الأب الروحي لمحمد منير، إذ رافقه منذ أوّل ألبوم له "علموني عينيكي" (1977). لكن مسيرة منيب بدأت قبل ذلك بأكثر من عقدين، كعازف لآلة العود. غير أنّ شهرته الحقيقية كملحن بشكل أساسي وكمغنّ كذلك امتدت بين أواخر السبعينيات حتى أواخر الثمانينيات، وله ألحان شهيرة كثيرة غناها بصوته أو بصوت منير، وعمرو دياب (يا طير يا متغرب)، وعلاء عبد الخالق (بناديلك، الحب ليه صاحب...).

وقد تعاون مع شعراء كثر من نجوم تلك المرحلة مثل صلاح جاهين، وأحمد فؤاد نجم، وفؤاد حداد. لكن حتى اليوم تبقى أعماله الأشهر والأكثر نجاحاً هي تلك التي أعطاها لمنير، أوغناها بنفسه، وعاد منير لتأديتها. نذكر بينها "عقد الفل والياسمين"، و"حدوتة مصرية"، و"الليلة يا سمرا"، و"شجر الليمون"، و"يا مركبي"... وحالها كحال أغلب تسجيلات تلك الحقبة، كانت أغاني منيب عبارة عن غناء يرافقه عود، وهو ما يجعلها حتى اليوم من النوع المفضّل لنوع محدد من جمهور "السمّيعة" الذن يفضلون سماع الكلام مع اللحن، بعيداً عن التفاصيل المعقدة لتوزيع الآلات الأخرى. ولعلّ أغنية "الحب ليه صاحب" الشهيرة هي أفضل مثال على هذه التسجيلات التي تعتبر واحدة من أشهر إنتاجات منيب.

وإن كان الخطّ الذي اعتمده منيب، ونقله بطريقة أو بأخرى لمحمد منير في سنواته الأولى، بدا ناجحاً وشعبياً، فإنّ الفنان الإسكندري، من أصول نوبية بحر أبو جريشة (1935 ــ 1995) اختار لوناً مخلتفاً تماماً وهو السول والبلوز، ليُعرف نتيجة لذلك بـ"ملك البلوز المصري".

ولد أبو جريشة في الإسكندرية، بعد تهجير عائلته من النوبة، وبدأ حياته الفنية بالغناء في الأفراح الشعبية. النجاح الكبير الذي حققه في هذه المناسبات دفعه لتسجيل ألبوم يضمّ أغانيه التي كانت تتركّز في أغلبها عن الهجرة والبعد عن الوطن في ترابط واضح مع الحنين والأسى الذي حمله أغلب أهالي النوبة بعد تهجيرهم في ستينيات القرن الماضي مع بناء السد العالي.

لكن إنتاج ألبومه الأول لم يكن سهلاً. فرهن منزله واستخدم مال الرهن لإنتاج شريطه المسموع الأول، ودفع مصاريف التسجيل والعازفين. ونتيجة لهذه الخطوة المالية، واجه أزمة مالية كبيرة، فاختار بيع الألبوم لأي جهة ممكنة كي يغطي الرهن ولا يخسر البيت.

هكذا تعاون مع رجل الأعمال نصيف قزمان ليصبح هو منتج الألبوم الأول "كفاية بعاد" (1980) الذي حقق نجاحاً كبيراً بمعايير السوق وقتها. ولعلّ أشهر أغاني الألبوم حتى اليوم هي أغنية "مقادير". ومع نجاح هذا الألبوم اختار قزمان إنشاء شركة "صوت الدلتا" للإنتاج الفني التي تعاونت بعدها مع فنانين كثر مثل عمرو دياب، ومحمد فؤاد، وحتى عبد المنعم مدبولي، ويونس شلبي، وسمير غانم. رافق النجاح بحر أبو جريشة لسنوت وقدّم مجموعة من الأغاني الناجحة مثل "فينك يا حبيبي" (أعاد منير تقديمها قبل أسابيع من ضمن ألبومه الجديد)، و"ماله"، وأيوب"... كما ظهر في بعض الأفلام السينمائية مثل "إحنا بتوع الإسعاف" (1984) مع نجوم تلك الفترة سمير غانم، ومظهر أبو النجا، وإكرامي. ساهم كذلك في تأسيس فرق أخرى أهمها فرقة علي كوبان.

لكن في النصف الثاني من الثمانينيات، ترك شركة "صوت الدلتا" وتغيّر صوت الموسيقى التي يقدمها، كما تغير محتوى أعماله، وهو ما جعل شعبيته تتراجع، فعاد إلى الغناء في الأعراس إلى وفاته عام 1995.

مساهمة بحر أبو جريشة في تأسيس فرقة علي كوبان، تعيدنا إلى تجربة هذا الأخير. وهي واحدة من أفضل التجارب النوبية في التاريخ الغنائي المصري الحديث. ويرى كثيرون أن علي كوبان (1929 ــ 2001) نفسه هو فعلياً الأب الروحي للغناء النوبي.

في النوبة ولد كوبان، وفيها عاش طفولته، إلى أن اختار احتراف الغناء، فتوجّه إلى القاهرة في أربعينيات القرن الماضي، ليبدأ مسيرته هو الآخر في الأفراح. وقد كانت حفلات الزفاف مناسبات تحمل أهمية كبيرة في اكتشاف مواهب فنانين جدد، وإطلاقهم نحو النجومية. سريعاً حقق كوبان النجاح، فبدأ بدراسة الموسيقى بشكل أكثر احترافاً، وتعلّم لعب آلة الكلارينيت، وشارك في أوبريت "العرس النوبي" (1949). منتصف الخمسينيات، وبعد ثورة يوليو، اختار تأسيس فرقته الموسيقية (شارك فيها بحر أبو جريشة) لتقدّم الفن النوبي لكن بصوت مختلف، من خلال استخدام الإيقاعات والسلالم الموسيقية النوبية، لكن مع الاستعانة بآلات لم تكن موجودة في التراث الشعبي للفن النوبي مثل الأكورديون، والسمسمية، والكلارينيت، والساكسوفون.

أغلب أعمال تلك الفترة لم تكن مسجلة، وحتى اليوم الوصول إليها صعب، لكن النجاح الحقيقي الذي عرفه كوبان كان في نهاية الثمانينيات عندما قدّم حفلاً في مهرجان برلين الدولي عام 1989، وأخذ بعدها بسنة عضوية اتحاد الموسيقيين في برلين.

وتماماً كعلي كوبان، عرف الفنان النوبي حمزة علاء الدين (1929 ــ 2006) شهرته الحقيقة خارج مصر. درس علاء الدين الموسيقى في القاهرة، وتحديداً الموسيقى الشرقية والموشحات، فبدأ يتعلم العزف على العود الذي لم يكن آلة شعبية في النوبة حيث ولد. من القاهرة سافر إلى إيطاليا لدراسة الموسيقى ذلك، ومن هناك إلى الولايات المتحدة التي أقام فيها حفلات عدة، وسجّل أول ألبوماته "موسيقى النوبة" (1964). لكنه عمل كذلك في مجال الموسيقى التصويرية. شهرته الحقيقية في مصر بدأت بعد وفاته، بعدما انتشر شغله على المدونات، والمنتديات، ثمّ "يوتيوب".

لم يكن محمد حمام (1942 ــ 2007)، محظوظاً كعلاء الدين أو كوبان، وحتى اليوم لا يزال كثيرون يجهلون مساهمته  في المشهد الغنائي المصري. كان حمام صاحب الـ"هيت" الأشهر "يا بيوت السويس"، وهو ما جعل أغلب المصريين يظنون أنه من مدينة السويس. لكن حمام ولد في أسوان، وتعرّض للاعتقال أكثر من مرة خلال حكم جمال عبد الناصر، بسبب انتمائه السياسي (شيوعياً). لمحمد حمام عدد من الأغاني الشهيرة مثل "اللي يخبي القول"، و"الله لبكرا يطلع النهار"... وقد وقفت المواقف السياسية، والنضال المختلط بالفنّ في إعاقة نجومية حمام في مراحل كثيرة.

 
 
 
 
المساهمون