"عوالم" عشتار معلّم: خلطة أدائيّة لفنانة تتجاوز نفسها وهويّاتها

09 أكتوبر 2023
أخرج إميل سابا العرض الذي احتضنه مسرح القصبة في رام الله (العربي الجديد)
+ الخط -

تقرع الجرس... مرّة، اثنتين، ثلاثا، ثم تنظر في قلبها ليس في أي مكان آخر، متجاوزة التقسيمات الدينية والجغرافية والإثنية والمناطقية، متخليّة عن الازدواجيّة، مُوحّدة العوالم كلها والأشياء، بل ومُؤكدة على أن "تاريخ العالم كلّه نائم في كل واحد منّا".

هكذا لخّصت، ربّما، الفنانة الفلسطينية عشتار معلّم، ومنذ البداية، عملها الأدائي الجديد المُنفرد "عوالم"، الذي قدمته على خشبة مسرح القصبة بمدينة رام الله أخيراً في حواريّة ما بين المسرح، وفنون السيرك، والأكروبات، واليوغا، والرقص الحديث والمُعاصر، والأداء التفاعلي مع الجمهور، في توليفة مبتكرة ومتسقة، بعيدة عن أي نشاز منحازة ليس فقط لكون "جسدها هو بلادها"، بل لما هو أبعد من ذلك بكثير.

تتسلق الأبيض، وكأنه الجدار الفاصل بينها وبينها، وبينها وبيننا، وبينها وبين العالم، أو كأنه طريقها نحو السماء، أو نحو القاع مُجدداّ، حيث الوقائع التي تصدمنا بها بعدما صدمتها، فالحياة ليست سوداء تماماً كملابسها، وليست بيضاء كما الكفن الممتد من أسفل إلى أعلى أو العكس، بل هي مجموعة من "اللاحقائق" التي تربك الإنسان، تناولتها بأسلوب فلسفي عميق لا يخلو من كوميديا ذات طابع خاص.

وما بعد جدلية الجسد والبلاد، تذهب إلى جدلية الفكر وصاحبه، ودواخلنا وخوارجنا، والوعي الخاص والجمعي، ويميننا ويسارنا، والشهيق والزفير، فتارة نراها تتحدث عن الجسد كمصدر للعيب، مستذكرة جدتها التي كانت تطالبها على الدوام بأن تُعدّل من جلستها، كي تكون أكثر انسجاماً مع ما يريده المحيطون والجدّة نفسها.

وترحل عشتار بنا إلى القدس المليئة بالتاريخ والجمال والسلام، حيث وُلدت ونشأت، قبل أن نرتحل معها، حين كانت في سن الثامنة عشرة إلى باريس، ليس فقط لتتعلم المسرح، بل لتترك المدينة التي أحست ولو لبعض الوقت بأنّها مصدر عدم توازنها.

بعد ستة أشهر في باريس، ومع بدء إجادتها للغة الجديدة، بدأت تخرج في المسيرات والمظاهرات المؤيّدة لفلسطين، خاصة بعدما اكتشفت أن كثيرين لا يعرفون شيئاً عنها وعن مدينتها المقدسة، مسقط رأسها، ومعاناة أهلها مع المساعي الصهيونية المتواصلة لتغيير بنيتها وسكانها.

ولم تغفل عشتار ما تعرضت له قبل سنوات من قمع رافق عروض عملها "إنهدوانا"، والاستهداف المتعمد من جهات عدّة في فلسطين رسمية أو شبه رسمية في حرب قد لا تكون معلنة عن الفن.

كانت خيبة الأمل سيدّة الموقف على عكس باريس، أو هكذا بدا الأمر في البداية، لتكتشف لاحقاً أن القمع "ماركة عالمية"، وإن بأشكال متعددة، وأن "الأمل يبقى هو طريق النضوج، وطريق النجاح أيضاً".

وفي رحلتها على الجدار الأبيض القابل للتأويلات، ومع السيجارة التي رافقتها في العلو الشاهق، كانت تردّد أنها تحبّ عزلتها حدّ العشق، فعلى الرغم من كونها وحيدة إلا أنها لا تشعر بالوحدة، مستعينة بمقولات شهيرة وأمثال شعبية تدعم وجهة نظرها هذه، التي تبدو وكأنها ترهقها.

في "عوالم" عشتار، نرى "أنفسها" تارة في أتون التكنولوجيا الحديثة، وتارة أخرى بما يعرف بـ"قراءة الهالات" في إطار من الكوميديا الواعية، التي تنتقد الكثير من أشكال الشعوذة الممتزجة بطب نفسي سرابي أو حتى فاسد، قبل أن ندخل وإياها في قبو من الروحانيّات ذات البعد الصوفي موسيقى وغناء وأداء، مُواصِلة رحلة البحث عن حلّ ما لأشياء كثيرة قد تبدو واضحة ومبهمة في آن.

تعود عشتار معلّم إلى خشبة المسرح في فلسطين عبر "عوالم"، الذي أخرجه إميل سابا وأنتجه مسرح عشتار برام الله، لتؤكد أن لديها ليس فقط ما تقوله وتقدّمه من طاقة هائلة على الخشبة، بل القدرة على المضي قُدماً نحو مسرح فلسطيني، أو لنقل فنوناً أدائية فلسطينية تقدّم بطريقة تليق بقرنين من الزمن تشكّلت خلالهما علاقة الفلسطينية والفلسطيني مع خشبة المسرح.

المساهمون