عن موتٍ سينمائيٍّ أجمل من كلّ موت

24 مارس 2021
"الحاسة السادسة": انتقام السينما من الموت، أو تصويرٌ له؟ (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

 

تضيق الورقة البيضاء أمام ناقدٍ، يحاول اختراع كلماتٍ لمقالةٍ يُفترض بها أنْ تُنشر في موعدٍ محدّدٍ سلفاً. تضيق الغرفة. يقلّ الهواء. يُصبح لون النهار رمادياً. يحاول الناقد إيجاد فسحةٍ لتنفّسٍ يُعينه على الكتابة. الوقت يمرّ، وفي المهنة، الوقت لا يرحم. تتبعثر الكلمات وتختفي. ينظر الناقد إلى شاشةٍ، فتختفي الورقة البيضاء فجأة. يتسلّل قليلاً إلى صفحته الفيسبوكية، لعلّ خبراً يمنحه فكرة لكتابةٍ، ترتبط بالسينما وحكاياتها وأحوالها. لكنّ الخبر الأول، الذي يظهر أمامه، يقول إنّ صديقاً آخر له يغيب في الموت، فكورونا لعنة، ومضاعفات صحية تُصيب القلب بعطبٍ، فيتوقّف.

للموت ثقلٌ رهيب. رغم كثرته في أزمنةِ أوبئةٍ أو أزمات أو مصائب أو راحة (وزمن الأخيرة قليلٌ جداً)، يعجز البعض عن التأقلم مع نتائجه، ويرفض مثوله الدائم أمامه. للناقد اختبارات مع الموت، فالسينما تحتمل أقوالاً كثيرة عن فراق يُوصف أحياناً بغياب أو رحيل. أفلامٌ تذهب إلى الموت لانتشال راحل من عتمة قبرٍ، أو من فضاء اغتراب، أو من زحمة جثث. أفلامٌ تواكب محتضرين، وأخرى تعاين أهوال العيش اليومي إلى جانب محتضرين. أفلامٌ تغلب الموت بالكاميرا، فتصنع حياة على شاشةٍ، قبل أنْ يذوي كلّ شيء لاحقاً.

 

موقف
التحديثات الحية

 

كأنّ السينما تثأر من الموت بمنعه، بصرياً. أو بإعادة إحياء الحياة، بصرياً. أو بمواكبة موتى ومرافقة أحبّاء لهم، بصرياً. تُعيد السينما نبضاً، وتزرع في الروح حكاية، وتجعل الأفق مفتوحاً على عيشٍ. وإذْ تفعل هذا، تُدرك أنّ الموت باقٍ، وأنْ الغرفة المعتمة للتوليف لن تتمكّن من إقصائه نهائياً. تُدرك أنّ الصالة المعتمة لن تحول دون عتمة قبرٍ، فالقبر خاتمةٌ، والعتمة ربما تكون ملاذاً أخيراً، وإنْ يكن غير مُحبَّبٍ البتّة. السينما تثأر، فتصوغ الحياة مُجدّداً، وتروي فصولاً من الحِداد ومنافعه ومآلاته ومصائر الذين يُفترض بهم عيشه، وترسم ملامح تحدٍّ وغلبة، وتبوح بانفعالات وأمزجة.

السينما تثأر، رغم أنّ ثأرها مريحٌ لوقتٍ، فالحياة أبشع، والواقع أعنف، والمخاطر جمّة، والقلق يغلي، والموت حاضرٌ دائماً. السينما تُدرك هذا كلّه، لكنّها تُدرك أيضاً أنّ ولادتها قبل سنين مرتبطة بحياةٍ دائمة لها. ربما لهذا، تُتقن كيفية اختراع عيشٍ، وكيفية ابتكار ثأر، وكيفية منح المرء شعوراً بلذّة التفوّق على الموت، ولو بصرياً، ولو لزمنٍ قليل، ولو في عزلةٍ قاسية. السينما تعلم أنّ أفعالها، وكثيرٌ منها رائع وساحر ومطلوب، تعجز عن الانتصار على الموت، فالغلبة للموت، وهذا قدرٌ ثابتٌ لن يتغيّر.

لكنّ السينما، رغم هذا، تريد مسافةً أطول لعيشٍ إضافيّ، مع أنّ الحياة مؤلمة ومصائبها كثيرة، في عالمٍ يزداد انهياراً وعَفَناً وخراباً. والسينما تبتكر مساحةً أوسع، لعلّ في مساحتها الأوسع تلك يعثر المرء على أمانٍ قليل، قبل انكسارٍ أخير أمام موتٍ غير منتهية أفعاله.

ربما لهذا كلّه، يتمنّى الناقدُ أنْ يكون موته سينمائياً. فهذا، رغم استحالته، أجمل من أن يكون موتاً.

المساهمون