عن مدينةٍ تنعدم فيها الرؤية

11 ديسمبر 2020
بيروت (شارع الحمرا): مدينة مقفلة ومعتمة (أنور عمرو/ فرانس برس)
+ الخط -

 

يحتاج الناقد السينمائي إلى رؤيةٍ يُتيحها جلوسٌ في مقهى، أو سهرةٌ في ملهى، أو تنزّه في شارعٍ. الرؤية تُغذّي شيئاً يختلف تماماً عن تغذيةٍ تصنعها مشاهدة فيلمٍ أو قراءة كتاب أو متابعة مسألة. الرؤية المختلفة تذهب بالناقد إلى أفقٍ أبعد، ولو قليلاً، من صالةٍ أو كتابٍ أو مجلة متخصّصة. المقهى مفتوحٌ على أناسٍ وبيئة وحيّز وفضاء، فينكشف شيءٌ من نبض عيش أو من موت حياة. والملهى مصنوعٌ لمعاينة حسّية لمسالك وأقوال وتصرّفات وتفكيرٍ، يصعب، أو ربما يستحيل معرفتها في أمكنةٍ أخرى. والنزهة، إنْ تكن صباحاً باكراً أو في أول المساء، تقول حالاتٍ تُزيد من وعي فرديّ بأحوالٍ تحصل في محيط الناقد، وفي يومياته.

هذا ليس ترفَ كتابةٍ. الأمكنة خارج الصالة والقراءة والمتابعة تتحوّل سريعاً إلى امتدادٍ طبيعيّ للصالة والقراءة والمتابعة، بما تملكه من مفارقات وحساسيات ومشاغل، تُلهم صانع فيلمٍ ومؤلّف كتابٍ و"بطل" مسألة. فالأول يجد في أمكنةٍ كهذه، كما في غيرها، ما يأخذه إلى أرواحٍ وتأمّلاتٍ موغلة في واقعٍ مضطربٍ، والاضطراب غالبٌ إذْ يندر أنْ يكون الواقع، في راهنٍ كهذا، هادئاً ومُسالماً وساكناً. والثاني يعثر في التفاصيل، المصنوعة في أمكنةٍ كهذه، ما يحوّل كتابته إلى مرايا، وما يجعل النص حيوياً في انشغاله بغليانٍ يحتدم في واقع وراهن، وإنْ يتأخّر انفجاره فالنصّ المكتوب، كذاك المُصوَّر، قادرٌ على استباق كلّ شيء، لأنّ رؤية كهذه تتمرّد على ثوابت. والثالث يُصبح رهينة مسألته، فمسألته منبثقة من وقائع مفتوحة على عيون الناس وعقولهم وانفعالاتهم.

 

 

المأزق الآنيّ يقول بصعوبة حصول الناقد على رؤية كهذه. بيروت مغلقةٌ من دون تعبئة عامّة، أو فرض حظر تجوّل، أو إغلاق يضع الناس في عزلاتٍ خانقة، مع أنّ غالبية الناس غير ملتزمة عزلاتٍ كهذه، لكنّ الإغلاق يضيق، وأفق المقبل من الأيام مسدود، والرؤية المرجوّة مُغبّشة. ورغم لحظاتٍ تُحدِث فرحةً متواضعة، كفوزٍ طالبيّ على أحزاب وقبائل وطوائف، فإنّ كلّ شيء مُعتِم، وكلّ آتٍ مُثقل بموت وحُطام، وكلّ وقتٍ معطوب. والجلوس في مقهى يرفع نسبة اليأس من بلدٍ مُعطَّل، ومن أناسٍ يقبلون تعطيله ويصمتون. والسهرة تُمعن في بؤس وشقاء، لشدّة الانهيار الظاهر في وجوه وعيون، وفي محاولات دائمة لاصطناع ضحكٍ ينتهي في فراغٍ. والتنزّه في شوارع، إنْ يحدث، ينحرف عن مساره، فالكثرة خانقة، والضجيج، الذي من أجل لا شيء، قاتل.

لا شيء يدعو إلى اطمئنانٍ أو سكينة أو انشراح. الخراب يزداد حدّة. الألم طاغٍ. الاختناق ضاغط. التمزّق الذاتي مُشبع بقهرٍ وسكوت. الكتابة تسقط غالباً في التكرار. الركون إلى أفلامٍ وكتبٍ، وبعض الأفلام والكتب قديم، خلاصٌ مؤقّت، أو تأجيل للانكسار الأخير. العزلة في الوحدة تمرينٌ على وحدة منتظرة في عتمةٍ، لن تكون الصالة مرتعها.

لكنْ، أهذه فعلاً "هي المدينة التي يقولون إنّها كمالُ الجمال، بهجة كلّ الأرض؟" (مراثي إرميا، 2: 15).

المساهمون