قبل 8 سنوات، قسّم مؤسسا "غوغل" لاري بيدج وسيرغي برين الشركة إلى كيانات منفصلة، وأطلقا عليها اسم "ألفابت". أرادا فصل الأعمال الأساسية للشركة عن المشاريع الجانبية التي تحتاج إلى وقت للتطوير ولكن يمكن أن تدر أرباحاً على المدى الطويل. لكن هذه المشاريع الجانبية لم تنجح في در الأرباح، إذ لا تزال إيرادات الشركة تعتمد بشكل أساسي على الإعلانات. وتخلت "غوغل" عن المشاريع الكبيرة، بدءاً ببالونات توصيل الإنترنت وصولاً إلى العدسات اللاصقة المصممة لقياس الغلوكوز. وحتى أكثر مشاريعها الجانبية تقدماً ــ مصنع السيارات ذاتية القيادة وايمو وشركة فيريلي لتكنولوجيا الرعاية الصحية ــ طاولها التقييد. فـ"وايمو" أعلنت الأربعاء عن تسريح 8 في المائة من إجمالي موظفيها، بعدما سرحت آخرين في يناير/ كانون الثاني الماضي.
ورأت صحيفة واشنطن بوست أن الإجراء الذي اتخذته "وايمو" ليس إلا مثالاً جديداً على الواقع الجديد لعمالقة شركات التكنولوجيا: عصر الطموحات الكبيرة قد ولّى.
سيطرت إجراءات تسريح الموظفين وخفض النفقات على وادي السيليكون خلال الأشهر القليلة الماضية، وتضررت بشدة المشاريع الجانبية ذات الأفكار الكبيرة التي كان يفترض أن تصبح مصادر للدخل مستقبلاً. وفي هذا السياق، قال روجر ماكنامي الذي كان من أوائل المستثمرين في "فيسبوك" قبل أن يصبح من منتقدي تأثير وسائل التواصل على المجتمع، لـ"واشنطن بوست" الخميس: "لقد افترضوا (مسؤولو عمالقة التكنولوجيا) أن كل ما يلمسونه سيحقق نجاحاً. لكن الواقع ليس كذلك". أشار ماكنامي إلى أن ارتفاع أسعار الفائدة ينعكس صعوبة في العثور على الاستثمار اللازم لمواصلة الإنفاق على مشاريع خاسرة.
التخلي عن الطموحات الكبيرة يشكل محطة بارزة في مسيرة هذه الشركات. تحولت "غوغل" و"فيسبوك" و"أمازون" بسرعة من شركات ناشئة إلى عمالقة في القطاع خلال العقدين الأولين من الألفية، عبر الإخلال بالتوازن الذي حققته الشركات التي سبقتها. الروح التي كانت سائدة حينها، وطبعاً المليارات، ساعدت هذه الشركات في تمويل رأس المال الاستثماري من مستثمري وادي السيليكون. ولكن بالنسبة للمؤسسين الذين بدأوا أعمالهم في غرف النوم والمرائب، فإن تهديد الشركات الناشئة كان حاضراً دائماً.
وهكذا، كان إيجاد مساحة لأفكار محفوفة بالمخاطر وغريبة وطموحة أكثر من اللازم هو الحل لتجنب الركود الذي أصاب الشركات الكبرى من الأجيال السابقة، وفق ما لفتت إليه "واشنطن بوست". عندما طرحت "غوغل" للاكتتاب العام عام 2004، كتب مؤسساها، لاري بيدج وسيرغي برين، رسالة إلى المستثمرين المحتملين، محذرين إياهم من التركيز على النتائج المالية في كل ربع من السنة. أنشآ "غوغل إكس" Google X، وهو مختبر أبحاث يركز فقط على الأفكار الأكثر غرابة وخطورة، وأخبرا موظفيهما أنه ينبغي عليهم قضاء جزء من وقتهم في مشاريع لا علاقة لها تماماً بوظائفهم اليومية. وكتبا: "غوغل ليست شركة تقليدية، ولا ننوي أن تصبح واحدة".
تمكنت أكبر شركات التكنولوجيا بالفعل من تخطي العقبات. وأتمت "آبل" و"أمازون" و"غوغل" و"فيسبوك" مئات عمليات الاستحواذ على مدار العقدين الماضيين، إذ اشترت كل المنافسين الصاعدين والشركات الناشئة الصغيرة. جراء عمليات الاستحواذ هذه، ضمنت "غوغل" لنفسها نظام تشغيل الهواتف المحمولة أندرويد، واستأثرت "فيسبوك" بسوق الإعلانات عبر الهواتف، وأسست "أمازون" إمبراطورية للكتب المسموعة.
في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قبل شهر من إعلان "أمازون" موجة تسريح واسعة لموظفيها، بدأت بإنهاء مشروعها "غراند تشالنج" Grand Challenge. وفقاً لشبكة سي إن بي سي، فإن موظفي هذا المشروع كانوا يعملون مثلاً على نظارات ذكية وعلى أبحاث في مجال السرطان. قائد هذا المشروع باباك بارفيز غادر "أمازون" في أكتوبر. وأعقبت مغادرته أنباء عن إغلاق معظم مشاريع هذه الشركة، وبينها "أمازون غلو" Amazon Glow و"أمازون إكسبلور" Amazon Explore. أما "أمازون كير" Amazon Care، وهي شركة رئيسية في مجال الخدمات الصحية عن بعد، فقد أغلقتها المجموعة في أغسطس/ آب، واستحوذت على شركة ون ميديكال. لا بد من الإشارة إلى أن آندي جيسون أصبح رئيساً تنفيذياً لـ"أمازون" عام 2020، بعدما كان المنصب من نصيب جيف بيزوس المعروف بكونه صاحب رؤية ولا يتجنب المخاطرة. في المقابل، يتمتع جيسون بسمعة طيبة كرجل أعمال عملي.
من جهة ثانية، قال المتحدث باسم "أمازون" براد غلاسر، في رسالة إلكترونية لـ"واشنطن بوست"، إن الشركة "ستواصل الاستثمار" في "غراند تشالنج"، وإنها "تواصل رهاناتها الجريئة في مجالات لا تعد ولا تحصى، بما في ذلك توفير النطاق العريض لملايين الأشخاص حول العالم من خلال كويبر Kuiper، وتطوير برنامج الذكاء اصطناعي الشخصي الأكثر نفعاً في العالم، وإعادة تصور مفهوم الرعاية الصحية، على سبيل المثال لا الحصر". وأضاف غلاسر: "لدينا سجل حافل في تحويل الرهانات الجريئة إلى أعمال نافعة، ونحن متفائلون بشأن كل هذه المجالات".
أما في "غوغل"، فلم يكن "وايمو" المشروع الجانبي الوحيد المتضرر جراء التخفيضات الأخيرة. فـ"فيريلي" تعرضت لضربة قاسية، إذ خفض عدد موظفيها بنسبة 15 في المائة. هي واحدة من عدد قليل من المشاريع المتعلقة بالرعاية الصحية التي أطلقتها الشركة على مر السنين، وعملت على مجموعة من الموضوعات، بما في ذلك تربية البعوض المعقم لتقليل انتشار الأمراض التي تنقلها الحشرات، والمساعدة في إدارة مراكز اختبار فيروس كورونا خلال بداية الجائحة.
ووسط هذه الأجواء، برزت إلى السطح برامج المحادثة الآلية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي وسيطرت على النقاش في قطاع التكنولوجيا. دفعت الشركات الناشئة، مثل "أوبن إيه آي" OpenAI و"ستابيليتي إيه آي" Stability AI، منتجاتها إلى الجمهور، واستحوذت على موجة من الاهتمام، على الرغم من أن الكثير من تقنياتها اعتمدت على الأفكار التي طورتها الشركات العملاقة في وقت سابق.
أنفقت "مايكروسوفت" مليارات الدولارات على صفقة مع شركة أوبن إيه آي، لاستخدام برنامجها تشات جي بي تي ChatGPT في محرك البحث الخاص بها بينغ. وتسارع "غوغل" و"فيسبوك" لإصدار نسختيهما من برامج المحاثة الآلية. في الوقت نفسه، تواصل "ميتا"، الشركة الأم لـ"فيسبوك"، الاستثمار في عالم ميتافيرس، رغم أنه لم يجذب الكثير من المستخدمين إلى الآن. إذ يراهن مؤسس "ميتا"، مارك زوكربيرغ، على أن هذا العالم سيكون مستقبل التكنولوجيا. ولكن حتى زوكربيرغ اضطر إلى خفض التكاليف وإعادة تركيز موظفيه الحاليين على أهداف العمل الرئيسية للشركة في مواجهة انخفاض الإيرادات ومستقبل اقتصادي محفوف بالمخاطر. على مدار العام الماضي، خفضت "ميتا" استثماراتها في العديد من المنتجات والخدمات، أو أوقفت تطويرها، مثل علامة تبويب فيسبوك نيوز Facebook News. وفي وقت سابق، أعلن زوكربيرغ أن 2023 سيكون "عام الكفاءة".
يعد هذا التحول تغييراً كبيراً في ثقافة صناعة التكنولوجيا، إذ يترك الكثيرون وظائف ذات رواتب جيدة في شركات التكنولوجيا الكبرى، ويتجهون إلى شركات ناشئة محفوفة بالمخاطر، ويفترضون أنه يمكنهم العودة دائماً في حال لم تنجح هذه المشاريع الأصغر.