في الرابع من يوليو/ تموز 2021، تمرّ الذكرى الخامسة على غياب عباس كيارستمي (1940 ـ 2016). الفنان المعلّم، رفد السينما بأفلامٍ قادرة ـ من دون حبكة، وعبر لقطات شعرية طويلة، وحوار محدود ـ على تحويل حياة يومية عادية، إلى درسٍ فلسفيّ وجوديّ. أعماله لا تخضع لقانونٍ آخر غير قانونه الكلّي: الحرية. شكلُ العالم ينعكس لديه في أعمالٍ بصرية وشعرية، تجد مصادرها في الواقع والإنسان والطبيعة، وفي الشعر الفارسي، الذي غذّى عقله ولغته.
"عباس كيارستمي، دروب الحرية"، معرضُ استعادةٍ كاملة لأعماله السينمائية والتصويرية، يُقام في "مركز جورج بومبيدو الثقافي" في باريس، بين 19 مايو/ أيار و26 يوليو/ تموز 2021، بالتعاون بين شركة التوزيع الفرنسية MK2، مُرمِّمة أفلامه، و"مؤسّسة كيارستمي". تكريمٌ استثنائي للسينمائي الإيراني الراحل، حُدِّد موعده في إبريل/ نيسان 2020، لكنّ كورونا أدّى إلى تأجيله. حالياً، يُقام لمدّة شهرين ونصف الشهر، مع 46 فيلماً، لمبدع خارج التصنيف والتأطير، "في الجغرافيا أو الإبداع أو السياسة".
هذه مناسبةٌ لاكتشاف تلك الأفلام، بعد ترميمها في فرنسا، كأفلام مرحلة الشباب، أو مُشاهدة ما لم يُعرض سابقاً، كآخر أفلامه، "24 إطار"، المُشارك في الدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ"، من دون أنْ يُعرض في الصالات؛ أو مجرّد مُشاهدة تحفٍ له مجدّداً، كـ"أين منزل الصديق؟" (1987)، الجزء الأول من "ثلاثية كوكر"، وأول اعترافٍ دولي به، بعد نيله "الفهد البرونزي" في الدورة الـ40 (6 ـ 16 أغسطس/ آب 1987) لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي".
كنوز وتجارب
استعادة لم يسبق لها مثيل، لهذا المبدع الذي درس في "كلية الفنون الجميلة" في طهران، وعمل في مجال الإعلانات، قبل أن يُخرج، مطلع سبعينيات القرن الـ20، أفلاماً قصيرة ووثائقية لصالح "معهد كانون للتنمية الفكرية للناشئة". حينها، حقّق أعمالاً تأمّلية، تهتمّ بالطفولة، كـ"الخبز والزقاق" (1970).. فيلمٌ قصير عن يوميات صغير، و"المسافر" (1974)، أول روائي طويل له، عن تلميذ في مدينة إيرانية صغيرة، دفعه حلمه بمُشاهدة المنتخب الإيراني في مباراة لكرة القدم إلى القيام بمغامرة جريئة. هناك، أيضاً، "بدلة العرس" (1976)، وخمسة أفلام أخرى، قبل إنجازه "التقرير" (1977).
هذه أعمال اعتُبرت "كنوز الشباب" لكيارستمي، أتى معظمها من إيران في حالةٍ يُرثى لها من التلف، فبُعثِت مجدّداً، بعد عمل هائل أنجزته شركة MK2 في 10 أعوام، التي تُتيح فرصة مشاهدة هذه الأفلام المُرمّمة، والتي ستُصدرها في نسخ "دي في دي" قريباً.
بعد ثلاثة أعوام على تصوير "أين منزل الصديق؟" في كوكر، وقع زلزال مدمِّر في شمال إيران، تضرّرت بسببه تلك القرية، فتوجّه كيارستمي إليها، مع فريق تصوير، ليرى ما حلّ بناسها، الذين عرفهم عن قرب. هناك، حيث تتجاور الحياة مع الموت، ويسود منطق الحياة وسحرها، اللذان لا يوقفهما زلزالٌ، أنجز "وتستمر الحياة" (1991). في أيام تصويره، لاحظ كيارستمي بوادر حب بين شابين، ما دفعه إلى تحقيق "تحت أشجار الزيتون" (1994)، ثالث أفلام كوكر، المعروضة في الاستعادة.
هناك أفلامٌ أخرى مهمّة أيضاً، كـ"لقطة مُقرّبة" (1990): واقعة حقيقية بأبطالها الحقيقيين، يسردها فيلمٌ يمتزج فيه الروائي بالوثائقي، عن أفّاقٍ ينتحل شخصية المخرج المشهور مُحسن مخملباف، لشدّة إعجابه به، ويستغفل أسرةً بهويّته تلك. عثر كيارستمي على المحتال والأسرة، فصنع الفيلم. عن هذه المرحلة، التي نال فيها كيارستمي الاعتراف العالمي، تقول معصومة لاهجي، مُعاونته الفنية منذ عام 2007، والمُشاركة في تنظيم معرض صُور له في الاستعادة: "عباس كيارستمي فتح نافذةً على سينما غنية وقديمة في إيران، وأصبح في الخارج شعاراً لها، رغم أنّ أسلوبه وعالمه، مع كونهما مُتجذِّرَين تماماً في الثقافة والطبيعة الإيرانيّتين، كانا ذاتيّين تماماً".
بلغ الاهتمام الغربي بأفلامه ذروته، مع فوز فيلمه "طعم الكرز" بـ"السعفة الذهبية" في الدورة الـ50 (7 ـ 18 مايو/ أيار 1997) لمهرجان "كانّ" السينمائي، مناصفة مع "ثعبان البحر"، للياباني شوهي إيمامورا. فيه مُقاربة للموت، وتساؤلات عن الوجود، في موضوعٍ عبثي، عن رجلٍ يريد الانتحار، ويبحث عمن يقبل بدفنه. بعد تكريسه كمخرجٍ عالمي، حقّق كيارستمي "ستحملنا الريح بعيداً" (1999): مُهندس يأتي إلى المدينة من قرية كردية جبلية معزولة، مع مساعدين له، ويظلّ مجيئهم لغزاً حتى نهاية الفيلم تقريباً. هذا آخر ما قدّمه كيارستمي من أفلامٍ ذات نزعة "محلية"، بصبغةٍ إنسانية وعالمية في مدلولاتها.
حاضرٌ أبدي
عن أفلامه تلك، كتب الفرنسي ـ ذو الأصل الإيراني ـ يوسف عشاق بور، في "كيارستمي" (منشورات "فيردييه"، 2012)، الذي سيكون ضمن أعمالٍ يُعاد إبرازها في الاستعادة: "أفلامه الأولى تكشف إيران في العمق. إنّها رؤية تأمّلية، تحتفي بالطفولة والقرى والحياة في حاضرٍ أبدي. بعدها، طرأ تحوّلٌ جذريّ على سينماه (...). لم يعد مُخرجاً إيرانياً فقط، بل سينمائياً عالمياً داخل الجدران وخارجها، في البيوت وخارجها، في العمق الإيراني، كما في اليابان وإيطاليا، ليبدو في كلّ مكان كأنّه في مكانه، ودائماً مع هذا التأثّر الحرّ بجماليات المكان، وهذين الانفتاح والصفاء".
أجرى كيارستمي تجارب بعدها، لا سيما مع "عشرة" (2002)، الذي تدور أحداثه كلّها في سيارة؛ ثم "شيرين" (2008). كما خاض تجارب خارج إيران، مُنجزاً "صورة طبق الأصل" (2010)، في توسكانا، و"مثل أيّ عاشق" (2012)، في اليابان. عن هذا، تقول لاهجي: "الاعتراف العالمي به لم يجعله يركنُ مرتاحاً للجوائز، بل انطلق في تجارب، مُستغلاً الحرية التي أتاحتها له الوسائل الرقمية كفنانٍ له عالمه الفريد المستقلّ بعمق، والمُجرّب دائماً. فرض نفسه كنموذجٍ موحٍ لعديدين عملوا إلى جانبه في ورشاته، في كافة الأنحاء".
في معظم أفلامه، يتكرّر ما يُمكن وصفه بثوابت في أسلوبه: البساطة القصوى، وجمالية اللوحة، والسيارة، إن تكن سائرة في سهوبٍ ومرتفعات جرداء إلّا من شجرة، أو زاهية باخضرارها، أو عابرةً المدينة المزدحمة. هناك أيضاً أبوابٌ مغلقة أو شبه مفتوحة، ونوافذ تُسمع عبرها أصواتٌ لا وجوه لها، وأغراض: تفاحة وطابة وبخاخ وعظمة تتدحرج.
سيرته مُغايرة لسِيَر أخرى في السينما الإيرانية. لم يكن سينمائياً فقط. فهذا الغامض بنظّارته المدخّنة، التي لا ينزعها عن عينيه، والمُتمكّن من لغات فنية عدّة، كان يرى نفسه شاعراً، قبل أيّ شيء: "الليلة طويلة/ اليوم طويل/ الحياة قصيرة".
كان أيضاً مُصوّراً وفنانّاً معمارياً وموسيقياً. لذلك، لن تقتصر الاستعادة على سينماه، هو القائل: "أنْ أكون صانع أفلامٍ ومُصوّراً وشاعراً في الوقت نفسه: هذا من دوافع الحياة، للقيام بشيءٍ كلّ يوم، في السينما أو التصوير الفوتوغرافي أو الشعر. هذا ليس خياراً، بل أمرٌ لا مفرّ منه". حتّى رحيله، لم يتوقّف كيارستمي مطلقاً عن ممارسة التصوير الفوتوغرافي والفن الرقمي. لذلك، بالتوازي مع أفلامه، يُنظَّم معرضٌ لصُور له، لم تُعرض سابقاً. صُورٌ تُقدّم "نظرةً جديدة، سياسية وتاريخية وفلسفية".
مجمل الاستعادة تغوص في عالمِ سينمائيٍّ وشاعرٍ عبقريّ ظلّ، في إبداعه، على حاله من محاولات التجريب، والقدرة على تجاوز الحدود: "هذا المُجرّب الذي لا يكلّ، يتخلّص من السرد، الذي ساهم كثيراً في ارتباطه بالسينما، لاستكشاف مناطق جديدة"، كما كتب منظّمو تلك الاستعادة، المستوحى عنوانها من فيلمٍ له: "أين الصديق كيارستمي؟".