عند استعادة إرث عبد الحليم حافظ الغنائي بعد 44 عاماً على رحيله، يبدو واضحاً أنه أحدث ثورة في الغناء العربي من حيث الشكل والمضمون. إذ قاد مع رفاقه كمال الطويل، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي، وعبد الرحمن الأبنودي تطوير الأغنية العربية.
وهو ما أدركه باكراً الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي رأى في عبد الحليم النجاح والمستقبل، فتعاقد معه بعقد احتكار كان النجاح فيه أكيدا ومدويا.
احتضنت عبد الحليم سلطة الرئيس جمال عبد الناصر، فأصبح في عهده صوت الثورة وأحلامها. رحل عبد الناصر وجاء أنور السادات، ومعه نصر أكتوبر وسياسات الانفتاح الاقتصادي.
خلال العهد الجديد واصل عبد الحليم نجاحه لفترة قصيرة، لكن سرعان ما تدهورت حالته الصحية. وقد ترافق ذلك مع ظهور طبقة جديدة لم تستسغ أغاني حافظ ولا صوته. فضلت هذه الطبقة مطرباً شعبياً مغموراً يتمتع بصوت قوي، ويردد مفردات بدت غريبة وقتها على ذائقة المستمع المصري. كان ذلك المطرب هو أحمد عدوية.
سريعاً، ومع تكرار هذه الأغاني وبثها في الحفلات الخاصة والعامة والمطاعم والملاهي، أخذ عدوية يتسلّل إلى مختلف الطبقات وينجح في تغيير الذائقة الفنية العامة.
صمت نظام السادات وصل لحد الاتفاق على ضرورة انتشار هذا النمط الغنائي ومباركته. ونتيجة لذلك، انخفضت مبيعات أسطوانات حليم مقارنة بأسطوانات عدوية، التي سجلت مبيعاتها مليون نسخة. طبعاً شكّل ذلك صدمة كبيرة لـ"العندليب الأسمر". تصاعدت حدة هذه المنافسة غير المرئية، حدّ انتقاد الصحف بشكل جريء وللمرة الأولى لعبد الحليم وأغنيته "قارئة الفنجان" عام 1976. وتشابه الهجوم في أغلب الصحف والمجلات، فاتهم عبد الحليم حافظ بالغرور واحتقار الجمهور، وهو ما جعل الفنان المصري يدرك أن الزمن لم يعد زمنه. وقتها في النصف الثاني من السبعينيات، تردّد أن المسؤول الرئيسي عن سحب البساط من تحت رجلَي عبد الحليم كان صفوت الشريف، انتقاماً من علاقته بالممثلة الراحلة سعاد حسني. كما تردّد أن تغير النظام، والرئيس والمرحلة، يفرض ظهور أصوات جديدة.
في تلك الفترة شعر حليم بتدهور أكبر بحالته النفسية والجسدية. سافر إلى لندن للعلاج، بعدما تكفل الملك الحسن بكل نفقات الرحلة، وهو ما أغضب السادات وطلب من الفنان المصري رفض هذه المساعدات، على أن تتولى السفارة المصرية المصاريف.
بالطبع نفَّذ حليم طلب السادات بعدما حاول أن يواجه كل تلك الضغوط بقوة وشجاعة، وأن يعمل على مشروع فيلم "لا" (قصة الكاتب الصحافي مصطفى أمين وإخراج المخرج الجزائري الكبير أحمد راشدي). أراد صاحب "سواح" لهذا الفيلم أن يصل إلى العالمية، فاتفق مع فريق العمل على كل التفاصيل أثناء فترة علاجه بلندن. انتظر الجميع عودة حليم من لندن للبدء في تصوير هذا المشروع العملاق. لكن عودته كانت داخل نعش بعد وفاته. فرحل حليم ورحل معه مشروع فيلمه الأخير.