نهاية الشهر الماضي مرت الذكرى الـ46 لرحيل عبد الحليم حافظ، أيقونة الغناء العربي، وواحد من الأقانيم الثلاثة التي تشكل عماد الأغنية المصرية مع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب. كُتب الكثير عن أهمية "حليم" في تاريخ الأغنية العربية، لكن جانباً كبيراً من دوره في تغيير النمط الغنائي السائد في تلك الفترة بدا مهملاً، وهو ما نعود إليه هنا.
تزامن مسار عبد الحليم حافظ الفني مع المسار السياسي للبلاد. فبعد الثورة بات مطرب الدولة وقادتها، مطرب مصر الأول. وهو لقب احتفظ به طوال 25 عاماً، مقدماً تجربة هي الأنجح، لناحية الاستمرارية والشعبية، في عالم الموسيقى العربية. بالتوازي مع تغير شكل الحياة السياسية في مصر عقب الثورة، تغير شكل الموسيقى تدريجياً. تطورت الأغنية الشعبية، وبدأ التركيز على تقديم الفولكلور بكل أشكاله مع فنانين مثل محمد طه والريس حفني، وإعادة تقديم التراث بشكل جديد مع ملحنين مثل محمود الشريف ومن بعده بليغ حمدي، ومع شعراء جدد مثل عبد الرحمن الأبنودي، وظهور مطربين شعبيين على الساحة مثل محمد رشدي ومحمد قنديل، إلى جانب الجيل الأكبر، أي محمد عبد المطلب وشفيق جلال وغيرهما.
في زحمة هذه الأسماء، قدّم عبد الحليم حافظ الأغنية الرومانسية التي تلامس الأغنية الشعبية. كذلك نافس أسماء مثل محمد رشدي بالأغنية الشعبية السائدة في تلك الفترة، مع أغانٍ مثل "وأنا كل ما أقول التوبة" و"سواح" و"جانا الهوى". بدت تلك التجارب كأنها تمهيد لما سيقدم بعد ذلك من أغانٍ شعبية أقرب إلى البوب، أغانٍ شعبية تفتقد الأداء الشعبي الذي اعتاده الجمهور المصري.
وعلى الرغم من جودة الأغنيات التي قدمها "حليم" ونجاحها، فإنه يصعب أن نطلق عليه لقب المغني الشعبي، بل إن تجاربه في هذا النوع لم تكن سوى محاولة للسيطرة على الساحة الغنائية، من دون أن يغرق في الأداء الشعبي. إذ لا يملك "العندليب" مقومات المغني الشعبي، لا من ناحية مساحات الصوت ولا قوته. وتقول حادثة متداولة إن الأبنودي رفض الشكل النهائي الذي خرجت به أغنية "وانا كل ما أقول التوبة" بعد سماعها، لأنها لم تقدم في قالب شعبي فلكوري.
20 عاماً نقل فيها عبد الحليم الأغنية الشعبية إلى مكان عاطفي، ونزع منها هويتها المحلية. فقدّم الأغنية الرومانسية المهذبة المنظومة من شعراء مهتمين بالكلمة والصورة الشعرية والتحرك في إطار الحب والعاطفة بشكل رسمي موافق ومدعم من الدولة بكل الطرق. سيطر عبد الحليم على الساحة، وثبّت قدميه كابن بارّ لنظام يوليو، لكن هزيمة عام 1967 جاءت لتغير الساحة تدريجياً. فبالتزامن مع الاعتقالات، والرقابة والأزمات الاقتصادية، والنزوح من الأقاليم إلى القاهرة، بدأ التململ الشعبي من هذا الخطاب، وظهر ملل من شكل الأغنية التي رسخها عبد الحليم، سواء على الصعيد العاطفي أو الوطني، لتبرز أسماء جديدة تقدّم خطاباً نقدياً آخر، مع الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وغيره من شعراء تلك المرحلة، ومع ما قدمه فؤاد حداد ومجدي نجيب والمطرب النوبي محمد حمام، أو حتى بداية ظهور الفرق المصرية التي تغني بالإنكليزية.
حالة التمرد هذه غذتها أحداث سياسية كثيرة: الهزيمة، حلم العودة، رد الهزيمة، استرداد سيناء... كل ذلك فتح الباب أمام ظهور شكل جديد من الأغنية، وتحديداً الأغنية الشعبية، أغنية مقابلة ومعاكسة لأغنية "حليم" في الشكل والمضمون والكلمات. أغنية هي ابنة الحارة المصرية في القاهرة، مع كلمات تعكس زمان ومكان كتابتها، وألحان مصرية خالصة وصوت شعبي يحمل الكثير من الحرية والطاقة في طريقة الغناء والشجن المستتر حتى في أوج الفرح.