عبده داغر: "الحدائق" تغلق أبوابها إلى الأبد

12 مايو 2021
جعل من بيته مدرسة مفتوحة لتعليم الموسيقى بالمجان (بورتريه لـ جنان داوود)
+ الخط -

يمثل رحيل الفنان عبده داغر ختام رحلة استثنائية لرجل استثنائي؛ فهو بحكم السن وطول المسيرة، شيخ الموسيقيين العرب وعميدهم. رجل امتدت تجربته الفنية زمنياً فتخطت سبعة عقود، وامتد أثرها جغرافياً إلى كثير من البلدان العربية والأوروبية، وامتدت إنسانياً عبر مئات التلاميذ، الذين صاروا نجوماً للموسيقى أو الغناء أو الإنشاد، وحملوا لأستاذهم مشاعر فياضة من التقدير والإعزاز.

كان داغر رجلاً موهوباً، لم يتلقّ أي قدر من التعليم الأكاديمي، لكنه صقل موهبته بالتمرين المستمر، وبالممارسة العملية. ورغم موهبته الكبيرة، لم يكن يتمتع بأي قدر من الذكاء الاجتماعي، فهو رجل صدامات ومشاغبات ومشكلات ومشاجرات مع معظم الرموز الفنية، ومن بينهم أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، ووزراء الثقافة ومديرو المؤسسات الثقافية.

كان صدامه الأول والمبكر مع والده، مدرس الموسيقى، وصاحب ورشة صناعة الآلات الموسيقية في طنطا، الذي رفض رفضاً باتاً أن يعمل ابنه في المجال الموسيقي، وكانت وسيلته لهذا المنع هي الضرب الشديد المبرح، كلما ضبطه متلبساً بحالة موسيقية، عزفاً كانت أو تعليماً أو استماعاً لأهل الفن.. لكن كل عقوبات الوالد ذهبت سدى، ولم يبق منها إلا "آثار العدوان".

بعد هزيمة 1967، شعر عبده داغر بأن التراث الفني الذي ورثناه عن محمد عثمان وعبده الحمولي وسيد درويش سيضيع.. اقترح إنشاء فرقة الموسيقى العربية، ووصل مقترحه إلى وزير الثقافة حينها ثروت عكاشة، فأمر مدير معهد الموسيقى العربية شفيق أبو عوف بالشروع في إنشاء الفرقة، كما اقترح اسم عبد الحليم نويرة لقيادتها.

ومع أول صدام مع عوف ونويرة، طُرد داغر، وفُصل من مسرح البالون، لكن الفرقة واجهت مشكلات عملية كبيرة، فاضطروا لإعادته بعد 15 يوماً، وبعد أن هدد نويرة بأنه لن يصعد إلى المسرح إلا بعد عودته. امتلك داغر سجلاً حافلاً من الوقائع والذكريات، أكثرها يأخذ شكل الصدام والمواجهة، اختلف مع أم كلثوم بسبب الأجر، وترك فرقتها التي يتمنّى العمل ضمنها كل عازف محترف. واختلف مع عبد الحليم حافظ، وترك فرقته بسبب تغيير ترتيب مقاعد العازفين. وغضب من فايزة أحمد بسبب كثرة إعادتها لمقاطع الأغنية، وتركها وهي تغني على المسرح في حفل رسمي، ونهرها قائلاً: "إحنا مش في كُتاب".

وانتهت علاقته بعمار الشريعي بصدام ثم قطيعة. أما صدامه مع المطرب الشعبي الشهير محمد رشدي؛ فقد واجهه داغر بإخراج مطرب جديد "ينيم رشدي من المغرب"، ولم يكن هذا المطرب إلا محمد عدوية، الذي كان يعمل "شيالاً" عند الفنانين، يحمل آلاتهم، وينقلها لهم، وكانت لديه رغبة كبيرة في الغناء، ألحّ بها كثيراً: "عايز أغني يا عم عبده".. فلما بدأ رشدي التعامل مع بليغ حمدي، ولمع اسمه، تنكر لداغر، فكان الانتقام بإخراج عدوية إلى الجماهير عبر "أسطوانة شعبي" مدوية، وغنت شوارع مصر وحواريها: "السح الدح امبو".

لكن الأيام ادخرت صداماً عنيفاً بين داغر، وبين رتيبة الحفني، التي ترأست معهد الموسيقى العربية، واستقدمت المايسترو يسري قطر لقيادة فرقة الموسيقى العربية، بعد رحيل عبد الحليم نويرة منتصف الثمانينيات، رغم علمها بالعداء القديم بين قطر وداغر. تفاقمت المشكلات، وشعر العم عبده بأن جهوداً كبيرة تبذل لاستبعاده وإقصائه تماماً عن الفرقة التي اقترح فكرتها، وكان له الفضل الأكبر في إنشائها. لكن غضبة داغر هذه المرة كانت ضد الوسط الموسيقي كله، وربما ضد الفن الموسيقي ذاته.

قرّر داغر ترك الموسيقى، والعزف في الفرق أو مع المطربين، وفتح ورشة لتصنيع آلة العود على مقربة من بيته.. وانعكست درايته العملية بالموسيقى على الآلات التي يصنعها، فحقق نجاحاً كبيراً، وزاد الطلب من البلدان العربية على أعواده. امتدّ زمن هذا الاعتزال الاحتجاجي 14 عاماً، قبل أن ينجح تلاميذه في إقناعه بالعودة إلى التأليف والعزف وتقديم العروض الحية.

لكن هذه المرة خارج مصر، على مسارح ألمانيا وسويسرا والنمسا وهولندا وإسبانيا وفرنسا. وخلال عروضه في أوروبا، أخذ داغر بعقول الجماهير وقلوبها. وصفّق له الحضور مطولّاً عقب كل مقطوعة يعزفها. وبدأت الصحف في أكثر من بلد أوروبي تهتم به، وتنشر عنه في مساحات واسعة، أو صفحات كاملة. وبعد مشاركة في مهرجان في مدينة أوزنا بورك الألمانية، كتب عنه الصحافي ماركوس تاكنبرجغ يقول: "إن هذا الرجل ذا السبعين عاماً تصدّر المهرجان، وتدفقت موسيقاه كالشلال، مع عزفه التأملي الطاغي". وبعد حفل في هولندا وصفته الصحف بأنه "موسيقي من أمة القرآن تتلبّسه أرواح العمالقة العظام".

انطلق داغر بين الجماهير الأوروبية المحتشدة لسماعه، بعد أن دبت فيه روح مغايرة لروح الإحباط التي هيمنت عليه بسبب تجاهله والمحاولات المستمرة لعزله. رأى الرجل صوره تزين الشوارع للإعلان عن حفلاته، ولقي مستوى من التكريم لم يعهده من قبل. شعر بأن قيوده تتحطم، وانطلق يقدم مؤلفاته: ليالي زمان، سماعي كرد، مدى، لونغا نهاوند، النيل، رقصة الهدهد، الشباب، إخناتون، مصر، الريشة والكمان، لونغا النيل، المشربية.

آداب وفنون
التحديثات الحية

اتسمت حياة داغر بعشوائية شديدة، لا يعرف التخطيط ولا التنظيم، يترك نفسه للمصادفات والمقادير. شخصيته الصدامية حرمته الاستقرار، فتقلّبت به الأيام من العزف في الموالد ومع العوالم والمطربين والمنشدين والمنشدات، وكبار أهل الفن، وصولاً إلى فرقة أم كلثوم. لكن نستطيع أن نجزم أن "التعليم" كان الثابت الوحيد في حياة الراجل. فداغر كان معلماً، لم يتوقف عن عطائه التعليمي في أحلك الظروف، منذ أن فتح بيته لتلاميذه عام 1963.

لم يتلق داغر أي قدر من التعليم، لكنه صار "المعلم الأول". لا قدرة له نهائياً على التنظير، أو حتى شرح منهاجه التعليمي، ولا يقرأ النوتة الموسيقية. فقط يقول لمن يرغب: "هات آلتك وتعال.. اجلس أمامي، وخذ عني". يؤمن داغر بأن التعليم الموسيقي يماثل العلم الشرعي، تلميذ يتلقى عن شيخ، وعلاقته بتلاميذه تتخذ طابعاً صوفياً: شيخ ومريد. يقول تلاميذه إنه "يخترع" تمريناً يتسم بالصعوبة والتعقيد، ثم يدرب نفسه عليه، عبر مراحل متدرجة.

هكذا كوّن نفسه عبر عقود، ثم عاش حياته لينقل خبرته إلى المريدين، من عازفي العود أو الكمان أو القانون أو الناي أو الأكورديون، وغيرها من الآلات الموسيقية، وكذلك إلى المطربين، وقراء القرآن، والمنشدين. 56 عاماً من نقل الخبرات إلى مئات التلاميذ، مجاناً، ودون أي مقابل مادي. كان بيته المدرسة المجانية العليا لطلاب الإجادة الفنية. كان يرى أن موسيقانا مستمدة من تلاوة القرآن والإنشاد الديني. ويكرر دائماً أن الفن الغنائي والتلحيني كله جاء من المشايخ. أم كلثوم ابنة شيخ، وعبد الوهاب ابن شيخ، والسنباطي ابن شيخ.. القرآن يحمل موسيقى ذاتية، ومن تلاوته تنبع الموسيقى العربية، وقراء مصر هم أعظم قراء الدنيا، لم يأت مثلهم ولن يأتي مثلهم.

رحل داغر بعدما أثمر ما زرعه عبر عقود: عشرات من محترفي العزف والغناء. قادة للأوركسترا في كثير من البلدان العربية. أكاديميون في جامعات غربية. كلهم يدين للرجل بالتعلّم والإرشاد والتوجيه. في منطقة حدائق القبة، عاش عبده داغر أكثر من خمسين عاماً في شقة متواضعة بالطابق الأرضي، وقد خصص ببيته حجرة للعزف والبروفات والدروس، هذه الحجرة التي اشتهرت عبر صور عشرات الفضائيات المصرية والعربية والأجنبية، وعشرات الصحف، ومئات الموسيقيين والتلاميذ.

 رحل شيخ الموسيقيين ومعلمهم من دون أن يلقى أي شكل من أشكال التكريم في مصر، وفي كل مرة كان يُسأل فيها عن هذا التجاهل يبادر قائلاً: "لا أريد تكريماً ممن تجاهلوني لعقود". ولعل حالة الحزن الكبيرة التي عمت تلاميذ الرجل في مختلف البلاد العربية، أسفاً على رحيله، تكون دافعاً لإعادة اكتشاف هذا الفنان الاستثنائي، ليس فقط بتكريمه، وإنما بتعظيم الإفادة من إرثه الكبير في نقل الخبرة الموسيقية من جيل إلى جيل. أيها الموسيقيون والعازفون والمطربون، لقد أغلقت شقة "الحدائق" أبوابها إلى الأبد.

المساهمون