في عام 1977، عرض المخرج الإيراني عباس كيارستمي، فيلم "التقرير" (The Report)، أول أفلامه الروائية الطويلة. يحكي الفيلم قصة عامل ضرائب، يصارع تهمة تلقيه رشاوى، وعلاقته الزوجية المتوترة. ثم اندلعت الثورة الإسلامية، ودخلت السينما الإيرانية مرحلة ما أطلق عليه "إعادة التأهيل" للفنانين الذين أسهموا في "إفساد الشباب" حسب تعبير آية الله خميني.
في الثمانينيات، خلال الحرب الإيرانية - العراقية، ازدهرت السينما الشعبوية مع إنتاج النظام الإيراني المكثف لأفلام الحرب والبروباغندا. رافقت انتشارَ هذا النوع من السينما رِقابةٌ مشددة، بصبغة دينية، على صناعة الأفلام، تُرجمت من خلال عدة ممارسات، كان أبرزها تأسيس وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، التي عنيت بمراقبة الإنتاج السينمائي، ومنح تراخيص التصوير والتوزيع.
ومن خلال مساحات التعبير المسوّرة والمراقبة تلك، عاد كيارستمي في فيلم "أين منزل صديقي؟" (1987) ليقدم أسلوبه الجديد الذي يمزج الروائي بالوثائقي، والحقيقي بالمفتعل.
وُلد كيارستمي في طهران عام 1940، ودرس فيها الفنون متخصّصاً في الرسم والتصميم الغرافيكي. ثم تنقل بين عدة وظائف من إصلاح الطرقات إلى وكالةٍ للإعلانات التجارية، وبعدها لدى مركز التنمية الثقافية للأطفال والشباب، حيث أخرج أفلاماً قصيرة ووثائقية، أثناء أحداث الثورة الإسلامية والحرب التي تبعتها. عبر هذه المحطات، ومن خلالها، تشكّلت فلسفة كيارستمي السينمائية، وكوّن أسلوبه الذي يفنّد مفهوم الحقيقة الواحدة ويفكّكها، ليترك للمشاهد حرية استكشاف وبلورة حقيقته الذاتية.
لم يكن الخلط بين الوثائقي والروائي (fiction and nonfiction) حديثاً على السينما الإيرانية، يكتب حميد نفيسي، مؤلف سلسلة التاريخ الاجتماعي للسينما الإيرانية، إلّا أنّ ما يميز أسلوب كيارستمي أنّه "يترك المُشاهدين في حالة دائمة من الغموض، مرغمين معها على التحليل، لتمييز واقعية الخيالي من وهم الواقعية". في فيلم "وتستمر الحياة" (1992)، الجزء الثاني من ثلاثية كوكر، يسأل الطفل بويا (الذي يلعب دور ابن المخرج) السيد روحي، إحدى الشخصيات التي ظهرت مسبقاً في فيلم "أين منزل صديقي؟" كشخصية مسنة: "لماذا كنت أحدب في ذلك الفيلم، وأنا طبيعي الآن؟". فيجيبه الرجل بأن طاقم الفيلم أرغمه على ذلك كي يبدو عجوزاً. وبعد أن يصل السيد روحي إلى منزله يمازحه فرهاد (الذي يلعب دور المخرج) قائلاً: "اعتقدت أنّك ستكون في المنزل الآخر". يواصل السيد روحي مشيه: "ذلك لم يكن سوى منزلي في الفيلم. ولكي أكون صريحاً معك، فهذا المنزل ليس منزلي أيضاً. قال لي المخرج إنّه منزلي لهذا الفيلم فقط". ويتكرر هذا الغموض الدائم في معظم أفلامه بشكل مباشر، كما في "وتستمر الحياة" أو بصورة معقدة كما في "نسخة طبق الأصل" (2010).
الحقيقة عند كيارستمي هُلامية، ذاتية، وقابلة للتأويل. والغموض عنده ليس وسيلة غايتها التشويق المحض، بل الطريق الذي يقودنا نحو السؤال. والسؤال، في جميع أفلامه، هو الأهم. هذا الغموض الناتج عن مزج الحقيقي بالمفتعل والوثائقي بالروائي يهدف إلى زعزعة الحقيقة الواحدة والتشكيك فيها: "لا يهم إن كان العمل الفني وثائقياً أم روائياً، فكلّها عبارة عن كذبة واحدة كبيرة نقولها للمشاهد" يقول كيارستمي. وهو، إذ يغزل الكذبات، لا يفكك مفهوم الحقيقة الواحدة فقط، بل يشكك في وجودها. يُقارب المؤلف والبروفيسور توم باولوس بين نظرتي كيارستمي ونيتشه للفن، وأنّ هناك توافقاً ضمنياً بأنّ ما يفعله الفن هو "كشف الحقيقة عن وهم الحقيقة".
لم يتبع كيارستمي نهجاً رومانسياً في معالجة مفهوم الحقيقة، بل كان عملياً وواضحاً في نقده لأنماط الحياة الناتجة عن الاعتقاد والتصديق بمصدر الحقيقة الواحدة. مثلاً، يصر النظام الإيراني الإسلامي على قولبة المرأة كشيء (object) لا هوية له، وينبغي تهميشه وكبح جموحه. في السينما والتلفزيون، يفرض نظام الرقابة قوانين مشددة تحد من حضور المرأة ودورها؛ كإجبارها على ارتداء الحجاب بشكل دائم، والسماح باستخدام تركيبات الشعر (الباروكات) فقط في الحالات التي تُظهر الممثلة بشكل بشع. ومنذ فرض النظام الإسلامي للرقابة، حاول صناع الأفلام الالتفاف عليها بطرق عدة، وصلت إلى حد الزواج المؤقت بين الممثل والممثلة، لكي يتسنى لهما تأدية أدوارهما بحرية وواقعية.
أما كيارستمي؛ فظاهرياً التزم بالرقابة وراح ينتقد جوهر الفكرة التي تصوّر المرأة من منظور أحادي. في "وتستمر الحياة"، يظهر الشاب حسين، الذي تزوج بعد الزلزال مباشرة، وهو يسأل زوجته، التي لا نراها على الإطلاق، عن مكان ملابسه. ثم يجلس مع المخرج فرهاد، قبل أن تتسرب كمية قليلة من الماء على رأس الأخير، لنكتشف بعدها أنّ الزوجة كانت تسقي الزهور (الدور النمطي لربة البيت). يصرخ عليها زوجها حسين من الأسفل ثم يغادر.
لكن كيارستمي، في أسلوبه متعدد الطبقات، يعود في فيلم "عبر أشجار الزيتون" ليحكي لنا في معظمه عما وراء كواليس تصوير مشهد الشاب حسين وزوجته (من فيلم "وتستمر الحياة")، التي نكتشف في هذا الفيلم أنّ اسمها طاهرة، وأنّ حسين "في الواقع" يرغب بالزواج منها، بينما ترفضه هي باستمرار.
يُفتتح الفيلم، وفي خلفية الكادر بحرٌ من طالبات الثانوية اللواتي يرتدين الشادور ولا نرى إلّا ظهورهن. ثم تذهب الكاميرا بين طوابير الفتيات برفقة علي محمد كشاورز، الذي يلعب دور المخرج في هذا الفيلم، وهو يبحث عن الفتاة التي ستلعب دور الزوجة.
أثناء البحث، تُركز الكاميرا على ملامح وسلوك الفتيات المختلفة: الخجولة، الجريئة، الظريفة، الحازمة... إلخ. ثم يسألهن عن أسمائهن الكاملة لغرض "الدور التمثيلي". في التركيز على ملامح كلّ فتاة على حدة، وتقديم أسمائهن الكاملة، انتقاد ذكي لمصدر الحقيقة الواحدة ولمفهوم الهوية الجمعية، الذي يسلب المرء فردانيته واستقلاله الذاتي.
لاحقاً، أثناء تصوير مشهد صراخ الزوج على الزوجة، يصرخ حسين على طاهرة كردة فعل لصبّها الماء على فرهاد كيرمادي. وحين تنتهي اللقطة، يصعد حسين، (الذي كما ذكرنا سابقاً أنّه يرغب من الزواج بها) ليعتذر لها: "أنا أصرخ فقط لأنّ المخرج طلب مني ذلك. أما في الحقيقة، أنا لا أصرخ، وأرتب ملابسي بنفسي". يشتغل كيارستمي في ثلاثية كوكر كلها على تفكيك مفاهيم الحقيقة الواحدة والمجتمع الواحد والتشكيك فيها. "لم يكن كيارستمي مفتوناً بالدور المضلل الذي يلعبه الإعلام فحسب، بل كان مدركاً للعبه الدور ذاته" تكتب مهرناز سعيد - فافا، مؤلفة كتاب "عباس كيارستمي". لكنّ الفارق دائماً، أنّ كيارستمي لا يدعي امتلاكه الحقيقة ولا يقدمها، بل يُشرك المُشاهد في البحث عنها.
الحقيقة عند كيارستمي هُلامية، ذاتية، وقابلة للتأويل
يظهر المخرج في عدد من أفلام كيارستمي كشخصية أحياناً، وكعباس كيارستمي ذاته أحياناً أخرى، وهو في إدراجه لشخصية المخرج أو المخرجين داخل عالم القصة (Diegesis) في الفيلم الواحد يقوم بأمرين؛ أولاً، تكوين التعددية - الطبقية للرواية التي بدورها تساهم في إنتاج تلك الحالة الدائمة من الغموض؛ ثانياً، يزعزع الثقة التي يعطيها المشاهد لسلطة المخرج، فكما أن للمعلم سلطة، ولرجل الدين سلطة، وللسياسي سلطة، كذلك للمخرج سلطة. فعبر إدراجه في الفيلم وتعريضه لما تتعرض له بقية الشخصيات من تعرية لأفكارها ورغباتها، ينزع عن المخرج الحصانة ويجعله محل نقد وتشكيك.
في "وتستمر الحياة" يُذكر المخرج (فرهاد كيرماد) أكثر من مرة كشخص يتلاعب بالحقائق ويوظفها في ما يخدم قصته هو. أما في "عبر أشجار الزيتون" الذي يتمحور كلياً حول ما وراء كواليس صناعة فيلم "وتستمر الحياة"؛ فيفتتح كيارستمي الفيلم بمشهد يظهر فيه علي محمد كشاورز وهو يخاطب الكاميرا مباشرة: "مرحباً، اسمي علي محمد كشاورز، وسأقوم بلعب دور المخرج".
في هذا الفيلم، يوجد ثلاثة مخرجين، أي ثلاثة مصادر للمعلومة: علي محمد كشاورز، وفرهاد كيرماد الذي يلعب دور مخرج فيلم "وتستمر الحياة"، وعباس كيارستمي. لاحقاً، وبينما يمارس كشاورز دوره كمخرج، يأمر الممثل الشاب، حسين رضاي، بأن يقول إنّ عدد الذين قضوا من أسرته في الزلزال خمسة وستون فرداً. ثم يصرخ أكشن ويبدأ المشهد: "خسرتُ 25 فرداً من أسرتي"، يقول حسين لفرهاد كيرماد. Cut! يصرخ كشاورز، ثم يذكّر حسين بأن يقول 65 فرداً بدلاً من 25. "لا، سيدي، لكنني خسرت 25" يرد حسين. "بل خسرت 65" يصرّ كشاورز، ويفرض إرادته.
وإذا ما عدنا إلى مراجعة المشهد نفسه في "وتستمر الحياة"؛ فسنلاحظ أنّ حسين يقول 65 فرداً. كشْف كشاورز (الذي يرمز لدور كيارستمي) وهو يتلاعب بالحقائق ويبالغ في نقل القصة، مع إعطاء المُشاهد فرصة الجلوس خلف الكواليس، من شأنه أن يزعزع ثقة المُشاهد بالمعلومات التي يتلقاها، خصوصاً أنّ ثُلث إنتاج السينما الإيرانية آنذاك كان مدعوماً من القطاع الحكومي.
رحل عباس كيارستمي في الرابع من يوليو/ تموز 2016، وخلف لنا أعمالاً نقف عندها، متأملين فلسفته الفنية، شاعريته تجاه الطبيعة والإنسان، وقدرته الساحرة تلك على إشراكنا في رحلة بحثه عن نفسه وعن الحقيقة، من دون رغبة فعلية في الوصول. يقول جودارد، المخرج الفرنسي، وأحد مؤسسي حركة الموجة الجديدة: "تبدأ السينما مع دي دبليو غريفيث وتنتهي مع عباس كيارستمي".