في عام 1999 قدمت "مجموعة أجراس للموسيقى" أول عروضها في تونس. لاحقاً، تنقلت الفرقة التي أسسها الموسيقي والمغني عادل بوعلاق في عدة بلدان؛ مثل: إيطاليا، وفرنسا، والجزائر، والمغرب، والهند. يحمل بوعلاق درجة الدكتوراه في العلوم الثقافية، اختصاص مسرح، والأستاذية في علم اجتماع الثقافة، وماجستير في فلسفة الفن. هنا، حوار معه.
ما هو التأليف الموسيقي بالنسبة لك؟ ومم تستوحي موسيقاك؟
التأليف الموسيقي أساسه فن الصوت، وتشابك الأصوات. المنطلق الأساسي في التأليف هو جمالية الصوت والتعبير. هذا يضعنا أمام ضرورة التفاعل مع الشعر في التلحين، على أساس تعدد الأصوات والتعبيرية في الكلمة. تحمل الجملة الكلامية في الشعر أو النثر، جرسها الموسيقي الذي يتجاوز غالباً المعنى المباشر ليلمس ما بعد المعنى، وتكثيف المعنى في الفلسفة يمكن أن يكون منطلقاً لموسيقى متجاوزة، حتى لسلطة الخطاب الكلامي.
هل هذا التجاوز يعني تحدي الموسيقى السائدة، أم أن الأمر لا يخرج عن الاختلاف فقط؟
الفعل الموسيقي السائد يستسهل التعامل مع الكلمة؛ إذ نجد الساحة اليوم غارقة في كم هائل من الإنتاج البسيط والساذج، لا مجال للعمق في اللحن أو في الكلمة. نحن -الفنانين الملتزمين- لا نتحدى، بقدر ما نعيش لحظة الإبداع بصدق، بعدما أصبح الإنتاج الموسيقي رهين الاستهلاك الغبي، الذي فرضته سوق المال والأعمال؛ لتتحول الأغنية السائدة إلى محمل إشعاري/إعلاني، أكثر من كونه إبداعياً.
لحنتم قصائد غير غنائية لمحمود درويش ولغيره. هل تنحازون بذلك للكلمة على حساب الموسيقى، على أساس أن جهدكم في الأغنية سينصرف إلى تطويع الكلمات العصية وليس إلى الفنيات؟
بين الموسيقي والشاعر تحد جميل. يتحداني الشاعر بالكلمة فأتحداه بالصوت، وكلانا يتقدم في مسار واحد، هو الولوج إلى ما وراء المعنى. وحين تجاوز محمود درويش بكلماته المعنى المباشر، عبرت عن ذلك بالموسيقى؛ فالفن البديل يتسم بالقدرة على التجذر ثم التجاوز، والموسيقى تتمتع بهذه الطاقة الأساسية عبر الصوت، لتعمق رحلة الشاعر في التجاوز، وتفاعلي مع محمود درويش كان أساسه قدرة الشاعر على التكثيف من ناحية، والتجاوز من ناحية أخرى، وهكذا حال كل الفنون، تتفاعل مع الموسيقى لتعميق التجاوز.
شخصيا، ما هو باعثك على تلك الموسيقى أو الأغنية البعيدة عن السائد؟
شعوري أن الالتزام يكمن في مدى قدرتي على استيعاب الواقع بجملة موسيقية، فيها معادلة بين التجذر والتجاوز، وهذا الأمر أظنه ينسحب على كل الفنون، وليس الموسيقى فقط.
رحلة "مجموعة أجراس" تمتد إلى ما قبل الثورة، وبالطبع الحدث العظيم كان له تأثير على ما تقدمونه من فن. ما هي أبعاد هذا التأثير؟
الفن يعيش حالة ثورة دائمة، والفنان بطبعه لا يحيد عن المسار الثوري، وهذا يستوجب مواكبة الحدث بعمق الفنان الثائر، وما حدث في تونس في 14 يناير هو مسار ثوري، جاء نتيجة لمراكمة أحداث كثيرة منذ الستينيات من القرن الماضي. وليكون الإبداع الفني ملامساً بعمق للتحولات الحاصلة، لا بد أن تقوده رؤية تاريخية تنبني على تحليل التاريخ والذهنيات والسلوكيات، وهو ما يفعله الفن الملتزم؛ فتاريخه يقطع مع تاريخ تكتبه السلطة لتلميع صورتها. لذلك نحن -الفنانين الملتزمين- نحرص على مواكبة الحراك الاجتماعي بتفاصيله، بعيداً عن المواكبة الإعلامية والأخبار الرسمية، وتستطيع القول أيضا إن قدرة الفنان الأصيل تظهر في امتزاجه بالحراك الثوري، من دون أن يفقد ذاته المبدعة.
ما الذي قدمته أجواء الانفتاح التالية للثورة إلى الأغنية البديلة؟ وما الذي خصمته الثورة من تلك الأغنية، إذا ما وقع ذلك؟
عشنا مراحل متتابعة من محاولات طمس الأغنية البديلة من خلال صناعة نجوم لأغنية بديلة، لا علاقة لهم بتاريخ الالتزام، وقُدمت هذه الموجة الجديدة على أنها وليدة الثورة. وفرت السلطة القائمة، الإمكانات المادية واللوجستية، لتظاهرات تعج بوجوه شبابية وصورة هجينة من الأغنية والموسيقى، تسوق لنمط تعبيري صوتي مشوه، أحياناً بسبب طبيعة اللغة العربية، أو حتى اللهجات المحلية، مع غياب كلي للجملة الموسيقية، مقابل الأداء الخطي لا النغمي. هنا، أصبح لزاماً علينا الفعل لنشر المنحى الالتزامي في الموسيقى والأغنية، على شكل لقاءات إبداعية وحوارية، وكانت ظاهرة نوادي الشيخ إمام المنتشرة على امتداد المدن التونسية. كذلك عملنا على تكثيف الحضور الإعلامي، وتنظيم عروض متتالية في كل الفضاءات الثقافية، إضافة إلى بعث مهرجانات الأغنية الملتزمة.
هذا ينقلنا إلى الاستفسار عن رؤيتك لما يجري على الساحة الغنائية والفنية عموماً اليوم في تونس.
الصراع على أشده بين الأغنية السائدة والأغنية الملتزمة. ومن الملاحظ توجه أغلب الموسيقيين الشباب، وخريجي المعاهد الموسيقية، إلى الالتزام، وأعتبر ذلك مؤشراً إيجابياً على ذيوع الموسيقى البديلة، رغم محاولات السلطة والإعلام أيضاً طمس وجودنا وتجاهل فعالياتنا، إلا أن إصرارنا على الحضور دائماً بين الجمهور، ساعدنا على فك الحصار، وعظّم من قدرتنا على مواجهة هذا السلوك الإقصائي.
تقصد السلطة القائمة حاليا؟
لا تعني السلطة الإدارة السياسية فقط، بل تشمل الممسكين بالقرار المالي والإداري أيضاً، ومنهم من ينتمي للنظام السابق؛ إذ ما زال لهم حضور في إدارة البلاد. فحتى داخل السلطة هناك صراع، وأتصور أننا كفنانين في عمق هذا الصراع.
تنسب الأغنية البديلة إلى الشيخ إمام. ويعود بها البعض إلى سيد درويش، فكيف ترى مسارها الممتد حتى اليوم؟ وهل تتمايز تلك الأغنية في تونس عن نظيراتها في بلدان عربية أخرى؟
تجربتا الشيخ إمام وسيد درويش مهمتان باعتبارهما محطة في تثوير القالب الموسيقي والجملة الكلامية المغناة، لكن هناك تجارب أخرى، مثل الرحابنة في لبنان، و"العاشقين" في فلسطين وفرقة "الطريق" في العراق. ما تمتاز به تونس، هو ارتباط التجارب الموسيقية الملتزمة بالجامعة والأوساط الطلابية، ما مكن من وجود ديناميكية تربط الفن بالمعرفة، وكان هذا من بين العناصر التي حصنت الموسيقى الملتزمة ودفعتها إلى المراكمة باعتبارها تجربة عرفانية وإبداعية.
في ضوء ذلك كيف ترى مستقبل الأغنية البديلة؟
الأغنية البديلة أو الملتزمة صالحة لكل زمان ومكان، وهذه الصلاحية تجعلها تتغير باستمرار، وتتبنى مشاغل وهموم الناس، فلكل عصر مشكلات لا بد من التعبير عنها إبداعياً. أتصور أن الموسيقى الملتزمة في تونس، كانت ولا تزال مجالا للتعبير، يفرض ذاته في الساحة الثقافية. ومنذ 2011، وموسيقانا تتسع دوائرها في الفضاءات العامة والشارع، وواكب ذلك خروج الفكر والفن بصفة عامة خارج أسوار الجامعة، وهو أمر يدعو للتفاؤل.