صيف 2024... غناء يلفظ أنفاسه الأخيرة

07 سبتمبر 2024
ينتمي سعد إلى جيل الفنانين الذين ظهروا خلال العقد الأول من الألفية (أيمن عارف/ Getty)
+ الخط -

يلفظ صيف 2024 آخر أنفاسه على صفيح ساخن، ظهرت علاماته بدءاً من الأرصاد الجوية، وصولاً إلى أخبار البورصات العالمية. فيما أتت إصدارات الغناء العربي لهذا الصيف أقل حرارة، كما لو أن الغالب منها تزامن مع لحظة غيم. غير أن المشهد يطل علينا بمتغيرات، أهمها التراجع الملحوظ لأبرز نجوم الترند في آخر السنوات. ولعلنا نشهد ملمحاً من تقلبات سوق الغناء وعدم ثباته بالنسبة لأكثر النجوم نجاحاً، ولو أنها سمة لا تستقر صعوداً وهبوطاً.

مع بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، شهد سوق الغناء العربي ظهور أصوات جديدة، حقق بعض أعمال أصحابها انفجاراً على منصات الموسيقى. لكن سُرعان ما أصبح الانفجار أشبه بالطفرة. هذا العام يترك لنا علامة استفهام عما إن كانت الألمعية، الناتجة عن طبيعة السوق لأغاني الفنانين، مجرد طفرة آيلة إلى الانحسار.

ويمكن أن نضع المُغني المصري أحمد سعد ضمن أبرز النماذج التي يدور حولها السؤال. ينتمي سعد إلى جيل الفنانين الذين ظهروا خلال العقد الأول من الألفية، على غرار شيرين عبد الوهاب ومحمد حماقي وتامر حسني. غير أنه كان الأقل حظاً بينهم في الانتشار، ليلتحق بهم في مطلع العقد الحالي. وحققت سلسلة من أعماله نجاحاً مدوياً بوجودها بين الأغاني الأعلى مشاهدة على منصات الموسيقى. صحيح أن إحدى ظواهر الترند المرتبطة به تتمثّل بظهوره في حفلة أقامها في جدة مرتدياً تنورة منفوخة وأكماماً شفافة على ذراعيه. لكنها حالة أعقبت زخماً في إصداراته منذ 2021، كان أبرزها "عليكِ عيون". ترند جديد برز هذا العام على صلة بما يرتديه نجوم الغناء. فلم يكن أحمد سعد فقط الذي ظهر بالتنورة، أيضاً المغربي سعد لمجرد ظهر مرتدياً إياها في آخر حفلاته في دبي.

ويبدو أن الجمهور العربي تحدث عن ظواهر الفنانين السابق ذكرهم أكثر من الاستماع إلى آخر إصداراتهم هذا الصيف. على سبيل المثال، لم تحقق إصدارات عمرو دياب الأخيرة الاهتمام نفسه الذي أثاره ظهوره بفيديو مع بسمة بوسيل، الزوجة السابقة لتامر حسني.

يبدو أن صناعة الموسيقى العربية اكتسبت تطوراً ملحوظاً وفقاً لتلك الحالات، لكنها على صعيد الموسيقى اكتفت منذ سنوات بإعادة تأهيل أفكار سابقة. لكن هذا العام يبدو أقل توهجاً على صعيد الترند والانتشار. وهذا يدعو إلى التساؤل عن الجوانب التي جعلت الموسيقى أقل توهجاً خلال الصيف المُنقضي. وقبل ذلك، نعيد التساؤل عما إن كانت فورة النجاح التي حققها أحمد سعد في السنوات القليلة السابقة، تعيش بداية أزمتها هذا العام. مع أن تلك الفورة جعلته مطلوباً في أعمال الدويتو، كونه أيضاً أصبح عنواناً للترند في آخر السنوات. وكان دويتو "يا سبب فرحتي" مع أصالة الأنجح بين ما قدمه هذا العام، لكن ليس بزخم فترته السابقة. بينما مرّ دويتو آخر، "حظي من السما"، مع المغنية اللبنانية إليسا من دون ضجيج.

لم تكن بقية إصدارات هذا العام أوفر حظاً، بل على العكس كان حضورها مخيباً على منصات الموسيقى. إحدى تلك الأغاني كانت محاولة لتوسل لموجات الترند التي أصبحت منطقة الخليج تمثل أحد مصادرها، أو تتقاطع مع طبيعة النفوذ في سوق الفن. فجاءت "سعودي وأسمر" لأحمد سعد بلا سمات لحنية واضحة؛ إذ مزج الشعبي المصري بلمحات بوب، تبدو كما لو أنها إعادة تأهيل لذاكرة الاستماع. على صعيد آخر، ظهرت أصالة على إحدى لوحات ميدان "تايمز سكوير"، أشهر ساحات نيويورك. وعلى خلاف عمرو دياب الذي سبق أن ظهر على نفس اللوحة قبل عدة سنوات، وحققت أغانيه انتشاراً خارج العالم العربي، لا تمتلك أصالة بروفايل الحضور لدى الجمهور الأميركي أو الغربي. وكانت منصة سبوتيفاي هي التي اختارت أصالة تزامناً مع صدور ألبومها الأخير "ثم أنا". يضم الإصدار عشر أغان جميعها باللهجة الخليجية. ويبدو أن ذلك سيصبح بمثابة نجاح يثير جنون الوسط الفني العربي، علامته الظهور على لوحة إعلانات في "تايمز سكوير".

ربما كان هذا الصيف الأفقر في صناعة الموسيقى العربية من حيث الانتشار. وفي نفس الوقت، لم تعوضه إصدارات ذات قيمة فنية. واللافت هو ملامح الإطراء التي نالها ألبوم أنغام الصادر في يوليو/تموز الفائت. لكنه يحيلنا إلى مزاج نخبوي سقفه منخفض. وبينما كان عمرو مصطفى يشن هجومه على كل زملائه في الوسط الفني، لم يتجرّأ على أن يمس ألبوم أنغام حين سألته المذيعة عنه في حوار أجراه أخيراً. ربما شهد ألبومها تعابير غير مألوفة، مثل "رصة ذكريات"، لكنه بالمجمل مُستهلك من ناحية الكلام واللحن. بينما صوت أنغام المُتعب اتكأ على تبسيط اللحن مع توظيف العُرب في منطقة مأمونة بين البوب والتقليدي. ربما كانت أغنية "وبقالك قلب" تستعيد ملمحاً كلاسيكياً عبر التنويع المقامي، بدءاً بالحجاز مروراً بالبيات والنهاوند وخروجاً منه إلى الصبا عند مقطع "سيرتها بتوجع". والأغنية من ألحان الراحل رياض الهمشري.

اللافت في المشهد هو ظهور سمات الشيخوخة على أصوات جيل من الفنانين سادوا زمناً، بما في ذلك أصالة وعمرو دياب. وفي الوقت نفسه، تظهر علامات تفسّخ سريعة على جيل الألفية. هذا الانحسار يظهر على آخر ألبومات المصري محمد حماقي، الذي لاحت عليه علامات الفشل مُبكّراً. فاكتفى بنشر ثماني أغان من ألبومه "من الأساس"، مؤجلاً بقية الأغاني. وربما فرض عليه ذلك إجراء تعديلات على ما تبقى منها، أو تعديل بعض اختياراته. ومن الممكن أن يصبح ألبوماً نصفه صيفي ونصفه الآخر شتوي. 

يعود الأمر إلى التكرار النمطي لاختيار الفنانين، وربما لواقع موسيقي أصابه الركود. وبعد مراجعة سريعة لآخر الإصدارات، ليس هناك أغنية ضربت بالمعنى الشائع، أو "كسرت السوق". وتلك الصفة لا تعني بأن الأغنية جيدة أو ذات قيمة فنية، إنما ناجحة على صعيد السوق. لكن هناك أغان ناجحة نسبياً. من ناحية أخرى، لا يبدو أن أغاني الأندرغراوند، مثل المهرجانات والراب، تعيش فورة انتعاشتها السابقة. بينما اللافت هو نجاح فئة جديدة من الفنانين، هم الموسيقيون المستقلون. وهي سمة بدأت تكتسب زخماً واضحاً خلال هذا العقد، بالنسبة لصناعة الموسيقى العربية.

لعلّ الشامي من أبرز الموسيقيين المستقلين العرب، بل إنه من الأكثر نجاحاً لهذا العام، إن لم يكن الأكثر نجاحاً بين المغنين العرب. حققت أغانيه نجاحاً، مثل "وين" التي حظيت بـ77 مليون مشاهدة، ومن المتوقع أن تتخطى الـ100 مليون قبل أن ينقضي هذا العام. فيما سبق وتخطت أغنيته "صبراً" 130 مليوناً منذ صدورها في فبراير/شباط الماضي. الشامي فنان سوري شاب من المستقلين الذين ينتجون لأنفسهم، بدأ مسيرته الاحترافية منذ عام 2021، وسُرعان ما حقق نجاحاً. كما أنه يكتب ويُلحن لنفسه، معتمداً على مزج ثيمات شعبية سورية مع أساليب غربية حديثة، مثل التراب والإلكتريك ميوزك والبوب وغيرها. تُرى، هل سيستمر زخمه لفترة أطول؟ أم أنه طفرة ستمضي لاحقاً؟ واللافت أن نجاحه مرتبط بغناء يأتي من خارج مراكز الغناء العربية السائدة؛ مصر، وبدرجة أقل لبنان. ما يعني أن الجمهور العربي متعطش لأنماط جديدة خارج تلك المراكز الغنائية.

ففي سابق السنوات، ازدهرت موجة من الأغاني العراقية على منصات الموسيقى، كما سبق للون الجزائري ثم المغاربي أن فرض نفسه. أي أن سوق الموسيقى تشهد انفتاحاً على عناصر موسيقية عربية جديدة، بحاجة إلى صيغ عصرية.

إنه صيف ينذر المغنين بالبحث عن اشتقاقات جديدة، أو إعادة تأهيل عناصر لحنية جديدة، حتى وإن كانت من الماضي. وبصورة ما، يبدو أنه عقد يعيد إفراز متغيرات وفُرص تفتح ذراعيها لازدهار جيل أكثر شباباً وحماساً. مع ذلك، ربما لعبت الأحداث السياسية دوراً في ظهور علامات الركود على سوق الموسيقى. ولعل عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة ومشاهد الإبادة تركت غصّة لدى شرائح واسعة من الجمهور العربي، بخلاف ما يشهده كثير من البلدان العربية من معاناة في الوضع المعيشي.

المساهمون